وخلاصة القول: أن حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) صحيح لا ريب فيه، وقد ثبت العمل به زمناً على عهد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعد زمنه، ولولا ورود الرخصة فى الحجامة للصائم، بالأحاديث المتيقن ثبوتها وصحتها، لقلنا بموجب حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم))، أما وقد قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه))، فقد تعين قبول الرخصة، لأنها متيقنة بعد النهي، وبهذه الرخصة جازت الحجامة للصائم.
[المسألة الثالثة] قد بان مما نقلناه من أقوال المرخصين فى الحجامة للصائم، أنهم أجابوا عن أحاديث الفطر بأجوبة:
(الأول) أنها معلولة وأن أحاديث الرخصة أمثل إسناداً.
(الثاني) أنها منسوخة بأحاديث الرخصة.
(الثالث) أن الفطر فيها لم يكن لأجل الحجامة بل لأجل الغيبة، وذكر الحاجم والمحجوم للتعريف لا للتعليل.
(الرابع) أن الفطر فيها ليس على الحقيقة، ولكن على معنى التعرض لأن يفطر، لما يلحقه من الضعف والجهد.
(الخامس) أنه على الحقيقة، وأن مرور النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهما كان مساءاً في وقت الفطر، فأخبر أنهما قد افطرا ودخلا في وقت الفطر يعني فليصنعا ما أحبا.
(السادس) أنه تغليظ ودعاء عليهما، لا أنه خبر عن حكم شرعي بفطرهما.
(السابع) أن على التنزيه والتوقى عما يبطل ثواب صومهما.
(الثامن) أنه لو قدر تعارض الأخبار جملة لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى، لتأيدها بالقياس وشواهد أصول الشريعة لها، إذ الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه.
وقد أجاب القائلون بالفطر على أكثر هذه الاستدلالات ودفعوها، ومع ذا فقد بقيت الحجة قائمة للترخيص فى الحجامة للصائم بطريقين صحيحين لا مطعن فى واحدٍ منهما إلا بنوع تعسف:
(أولهما) ما صحَّ عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أرخص في الحجامة للصائم. ولفظة أرخص لا تكون إلا بعد نهى، فهى قرينة تؤيد القول بنسخ حديث إفطار المحجوم، وإن كانت دلالة حديث ابن عباس على النسخ غير ناهضة بالحجة، لعدم الجزم بتوقيت حجامته صلَّى الله عليه وسلَّم صائماً على وجه القطع والتعيين.
(ثانيهما) قوة الحجة فى العمل بالرخصة بتأيدها بالقياس وشواهد أصول الشريعة.
قال ابن ابى شيبة (2/ 308/9319): حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: في الحجامة للصائم، قال: الفطر مما دخل وليس مما يخرج.
بيان حكم حجامة النساء
(29) عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحِجَامَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يَحْجُمَهَا. قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَخَاهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ غُلامًا لَمْ يَحْتَلِمْ.
هذا الحديث غاية فى الصحة، ولهذا أودعه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابورى فى ((صحيحه))، وهو قائم مقام الاحتجاج فى جواز تطبب المرأة، ومداواتها بيد الرجل الموثوق بأمانته وديانته وصيانته لحرمات النساء، ولهذا بوَّب عليه الإمام أبو حاتم بن حبان فى ((التقاسيم والأنواع)):
ذكر الأمر للمرأة أن يحجمها الرجل عند الضرورة إذا كان الصلاح فيها موجوداً
وأما قول الراوى فى الحديث: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَخَاهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ غُلامًا لَمْ يَحْتَلِمْ، فمما لا يلزمنا قبوله بإطلاق، فهو من إدراج أحد الرواة دون جابر بن عبد الله، ولا يمكن القطع بتعيينه ولا يقدح ذلك فى صحة الحديث، ولا تلقينا إيَّاه بالقبول، ومن مقتضاه جواز حجم الرجل الورع الأمين الثقة للمرأة إذا اضطرت إلى الحجامة، وكان الشفاء مظنوناً، ولم تكن ثمة نسوةٌُ حجامات ماهرات بأصول هذه الصنعة، وذلك فى وجود زوجها وبإذن منه إن كانت ذات زوجٍ، أو أحد محارمها إن لم تكنه.
¥