وما أحسن ما قاله العلامة ابن حزم ((المحلى)) (10/ 33): ((وأما قول الراوي: حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ أَخَاهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ غُلامًا لَمْ يَحْتَلِمْ، فإنما هو ظن من بعض رواة الخبر ممن دون جابر، ثم هو أيضا خلاف لواقع الأمر، لأن أم سلمة رضي الله عنها ولدت بمكة، وبها ولدت أكثر أولادها، وأبو طيبة غلام لبعض الأنصار بالمدينة، فمحال أن يكون أخاها من الرضاعة، وكان عبداً مضروبا عليه الخراج، كما روينا من طريق مالك عن حميد الطويل عن أنس قال: حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طيبة، فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه)). ثم قال: ((ولا يمكن أن يحجمها إلا حتى يرى عنقها، وأعلى ظهرها مما يوازى أعلى كتفيها)).
ـــــــ
(29) صحيح. أخرجه أحمد (3/ 350)، ومسلم (14/ 193)، وأبو داود (4105)، وابن ماجه (3480)، وأبو يعلى (2267)، وابن حبان (5602)، والحاكم (4/ 233)، والبيهقى ((الكبرى)) (7/ 96)، والخطيب ((تاريخ بغداد)) (5/ 169) من طريق الليث بن سعد عن أبى الزبير عن جابر.
وقال أبو عبد الله الحاكم: ((هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)).
قلت: وهو كما قال، ولكن فاته أن مسلماً أخرجه فى ((صحيحه))!.
وأما التحرز للحجام الذى يعالج النساء بكونه ورعاً ثقةً أميناً، فلأنه يكشف من المرأة ما يحرم عليه كشفه فى غير هذه الضرورة، فلا يحجزه عن المحظورات المهلكات إلا ورعه، ولأن عورات المرأة من الأمانات التى يجب ويتأكد حفظها وصيانتها، ولا يصلح لذلك إلا الأمناء الثقات، ألم تقل المرأة المؤمنة ((إن خير من استأجرت القوى الأمين)).
ولا يخفى أن ستر عورات النساء من أوجب الواجبات، ولا يجوز لامرأة أن تكشف عن جزءٍ ولو يسيرٍ من عورتها لأجنبىٍ عنها إلا لضرورة ماسة كمداواةٍ ونحوها، وضابط ذلك قول الله جلَّ وعلا ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو أبآئهن أو أبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)).
قال سلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام ((قواعد الأحكام)): ((ستر العورات واجب، وهو أفضل المروءات وأجمل العادات، ولا سيما فى النساء الأجنبيات. لكنه يجوز للضرورات والحاجات. أما الحاجات، فكنظر كل واحد من الزوجين إلى صاحبه، ونظر الأطباء للمداواة)).
والحجام وهو مضطر للنظر إلى محاجم المرأة المحرم عليه النظر إليها فى غير هذا الموضع، فهذا الاضطرار مقيد بشرطين:
(الأول) ألا يجاوز موضع الحاجة، إذ الضرورة تقدر بقدرها، فقد قال تعالى ((فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه)). فعلى الحجَّام ألا يجاوز ما أبيح له من الكشف والنظر لئلا يأثم بذلك، وليتحرى الإسراع بالفراغ من عمله ما أمكنه؛ لئلا يحرج المرأة وزوجها ومحارمها.
(الثانى) ألا يمس شيئاً من جسد المرأة بيده مباشرة، وذلك باستعمال قفازين، لما صحَّ من حديث معقل بن يسارٍ أن رسول الله قال: ((لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيطٍ من حديدٍ خير له من أن يمسَّ امرأةً لا تحلّ له)) (1).
ــــــ
(1) صحيح. أخرجه الرويانى ((المسند)) (2/ 323/1283)، والطبرانى ((الكبير)) (20/ 211/488،487) من طرق عن شداد بن سعيد الراسبي سمعت يزيد بن عبد الله بن الشخير يقول سمعت معقل بن يسار به.
قلت: وهذا إسناد متصل برجال كلهم ثقات، خلا شداد بن سعيد أبا طلحة الراسبى، فقد اختلفوا فى توثيقه، والأكثر على توثيقه. فقد وثقه ابن معين، وأحمد بن حنبل، والنسائى، والبزار، وابن حبان. وكفى بتوثيق الإمامين أحمد وابن معين.
¥