تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

السلف على تبديعهم، وتضليلهم، وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.

ومن محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها. وسواء أخالفت السنن أم وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق، وبالغوا في ذمه وإنكاره.

فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث، فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولاً به عند الصحابة ومن بعدهم، أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به، قال عمر بن عبد العزيز:'خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم'.

ومما أنكره أئمة السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، فكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع. وقد أنكر ذلك السلف، وورد في الحديث المرفوع: [مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [58]} [سورة الزخرف]] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.

وقال بعض السلف:' إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل'. وقال مالك:' أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم' يريد المسائل، وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا، ويقول:' يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم، يقول هو كذا هو كذا بهدر في كلامه'. وقال:' المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم'. وقال:' المراء في العلم يُقسي القلب، ويورث الضعن'. وكان يقول في المسائل التي يسئل عنها كثيراً: لا أدري، وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.

وقد ورد النهي عن كثرة المسائل، وعن أغلوطات المسائل، وعن المسائل قبل وقوع الحوادث، وفي ذلك ما يطول ذكره، ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه على مأخذ الفقه، ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر، يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب، وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة، وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم، بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه، فما سكت من سكت من كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلاً ولا عجزاً، ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه. وما تكلم من تكلم، وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام، وقلة ورع، كما قال الحسن-وسمع قوماً يتجادلون-:'هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا'. وقال مهدي بن ميمون:'أنا أعلم بالمراء منك، ولكني لا أماريك'.

وقال إبراهيم النخعي:' ما خاصمت قط'. وقال جعفر بن محمد:' إياكم والخصومات في الدين فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق'. وكان عمر بن عبد العزيز يقول:' إذا سمعت المراء فاقصر'. وقال:' من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل'. وقال:'إن السابقين عن علم وقفوا، وببصر قد كفوا، وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا'. وكلام السلف في هذا المعنى كثير جداً.

وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا، كلامهم أقل من كلام ابن عباس، وهم أعلم منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم، وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير