وأما من علمه غير نافع: فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم، ونسبتهم إلى الجهل، وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم، وهذا من أقبح الخصال وأرداها. وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه، وحب ظهورها إحسان ظنه بها، وإساءة ظنه بمن سلف. وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيئون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم، والوصول إليها، أو مقاربتها، وما أحسن قول أبي حنيفة- وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل- فقال:' واللَه ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم'.
ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلاً على من تقدمه في المقال، وتشقق الكلام ظن لنفسه عليهم فضلا في العلوم، أو الدرجة عند اللَه لفضل خص به عمن سبق، فاحتقر من تقدمه، واجترأ عليه بقلة العلم، ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعا وخشية للَّه، ولو أراد الكلام، وإطالته لما عجز عن ذلك. وقال بعض السلف:' إن كان الرجل ليجلس إلى القوم، فيرون أن به عيًّا، وما به من عي، إنه لفقيه مسلم'.
فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلًا ولا قصورًا، وإنما كان ورعًا وخشية للَّه، واشتغالًا عما لا ينفع بما ينفع.
وسواء في ذلك كلامهم في أصول الدين وفروعه، وفي تفسير القرآن والحديث، وفي الزهد والرقائق، والحكم والمواعظ، وغير ذلك مما تكلموا فيه، فمن سلك سبيلهم؛ فقد اهتدى، ومن سلك غير سبيلهم، ودخل في كثرة السؤال والبحث والجدال، والقيل والقال.
فإن اعترف لهم بالفضل، وعلى نفسه بالنقص كان حاله قريباً، وقد قال إياس بن معاوية:' ما من أحد لا يعرف عيب نفسه إلا وهو أحمق' قيل له فما عيبك؟ قال:' كثرة الكلام'. وإن ادعى لنفسه الفضل، ولمن سبقه النقص والجهل؛ فقد ضل ضلالا مبيناً، وخسر خسراناً عظيمًا.
وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند اللَه ولا يرضى بأن يكون عند أهل الزمان عالماً. فإن رضي بالأول فليكتف بعلم اللَه فيه. ومن كان بينه وبين اللَه معرفة، اكتفى بمعرفة اللَه إياه. ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ] رواه ابن ماجة والترمذي-بنحوه- والدارمي. قال وهيب بن الورد:' ربَّ عالم يقول له الناس عالم، وهو معدود عند اللَه من الجاهلين'.
فإن لم تقنع نفسه بذلك حتى تصل إلى درجة الحكم بين الناس حيث كان أهل الزمان لا يعظمون من لم يكن كذلك، ولا يلتفتون إليه فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وانتقل من درجة العلماء إلى درجة الظلمة، ولهذا قال بعض السلف- لما أريد على القضاء فأباه-:' إنما تعلمت العلم لأحشر به مع الأنبياء لا مع الملوك' فإن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة يحشرون مع الملوك.
ولا بد للمؤمن من صبر قليل حتى يصل به إلى راحة طويلة، فإن جزع ولم يصبر؛ فهو كما قال ابن المبارك:' من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع'. فنسأل اللَه تعالى علماً نافعاً ونعوذ به من علم لا ينفع.
من رسالة:'فضل علم السلف على الخلف' للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ[ Aboibrahim] ــــــــ[18 - 12 - 03, 01:49 ص]ـ
عفوا نسيت ادراج المصدر.
http://links.islammemo.cc/dros/
ـ[أبو عبد الرحمان القسنطيني الجزائري]ــــــــ[05 - 02 - 10, 07:37 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[حلية الأولياء]ــــــــ[05 - 02 - 10, 07:51 ص]ـ
أثابك الله،وجزاك خيراً، لقد كنت أبحث عنه من مدة، فها قد يسر الله الأمر على يدك.
ـ[أيوب البرزنجي]ــــــــ[05 - 02 - 10, 10:23 م]ـ
جزاك الله خيراً
ـ[محمد عبدالكريم محمد]ــــــــ[31 - 07 - 10, 03:01 م]ـ
جزاكم الله خيراً.