وفي وصيته صلى اللَه عليه وسلم لابن عباس: [احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ... ] رواه أحمد والترمذي. فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث يجده قريباً منه يستأنس به في خلوته، ويجد حلاوة ذكره، ودعائه، ومناجاته، وخدمته. ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته، كما قيل لوهيب بن الورد: يجد حلاوة الطاعة من عصى، قال:' لا ولا من هَمَّ'.
فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه ودل عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحى من قربه. وعبده كأنه يراه. ولهذا قالت طائفة من الصحابة:' إن أول علم يرفع من الناس الخشوع'.
وقال الحسن:' العلم علمان، فعلم على اللسان فذلك حجة اللَه على ابن آدم، وعلم في القلب فذلك العلم النافع. وكان الإمام أحمد رحمه اللَه يقول عن معروف:' معه أصل العلم، خشية اللَه'.
فأصل العلم باللَه الذي يوجب خشيته، ومحبته، والقرب منه، والأنس به، والشوق إليه. ثم يتلوه العلم بأحكام اللَه، وما يحبه ويرضاه من العبد من قول، أو عمل، أو حال، أو اعتقاد. فمن تحقق بهذين العلمين؛ كان علمه نافعاً، وحصل له العلم النافع، والقلب الخاشع، والنفس القانعة، والدعاء المسموع.
ومن فاته هذا العلم النافع؛ وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم، وصار علمه وبالًا وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً، ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه.
هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع به، وهو المتلقى عن الكتاب والسنة، فإن كان متلقى من غير ذلك؛ فهو غير نافع في نفسه، ولا يمكن الانتفاع به بل ضره أكثر من نفعه.
وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع: أن يكسب صاحبه الزهو والفخر، وطلب العلو والرفعة في الدنيا، والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العلماء، ومماراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إليه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من طلب العلم لذلك فالنار النار.
وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه والإعراض عما سواه، وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغيرهم، وإحسان ظنهم بهم، وكثرة اتباعهم، والتعظم بذلك على الناس. ومن علامات ذلك: عدم قبول الحق والانقياد إليه، والتكبر على من يقول الحق خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس، والإصرار على الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق، وربما أظهروا بألسنتهم ذم أنفسهم، واحتقارها على رؤوس الأشهاد؛ ليعتقد الناس فيهم أنهم عند أنفسهم متواضعون، فيمدحون بذلك، وهو من دقائق أبواب الرياء.
ويظهر منهم من قبول المدح واستجلابه مما ينافي الصدق والإخلاص، فإن الصادق يخاف النفاق على نفسه، ويخشى على نفسه من سوء الخاتمة، فهو في شغل شاغل عن قبول المدح واستحسانه، فلهذا كان من علامات أهل العلم النافع أنهم: لا يرون لأنفسهم حالاً ولا مقاماً، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، قال الحسن:' إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المواظب على عبادة ربه، الذي لا يحسد من فوقه، ولا يسخر ممن دونه، ولا يأخذ على علم علَّمَه اللَه أجراً '.
وأهل العلم النافع كلما ازدادوا في هذا العلم، ازدادوا تواضعاً للَّه، وخشية وانكساراً وذلًا.
ومن علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا، وأعظمها الرئاسة، والشهرة، والمدح، فالتباعد عن ذلك، والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع، فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار؛ كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته بحيث أنه يخشى أن يكون مكراً واستدراجاً كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.
ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدعى العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها، فإنه يتكلم فيه غضباً للَّه، لا غضباً لنفسه، ولا قصداً لرفعتها على أحد.
¥