وهو ما تكون دلالة القرآن فيه صريحةً في مسألةٍ ما، وتُعارِضُها دلالة الحديث الصَّريحة كذلك.
مثال ذلك: ما أورده ابن قتيبة (1) عن الطَّاعنين أنَّهم قالوا: (رويتم عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنَّه قال: " صِلَةُ الرَّحْمِ تَزِيْدُ فِي العُمْرِ" (2)، والله تبارك وتعالى يقول: {فِإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُوُن} (1) فكيف تزيد صِلة الرَّحم في أجلٍ لا يُتأخَّر عنه ولا يُتَقدَّم)؟
فالنَّاظر يجد ما اعترض به أمراً وارداً، والتَّدافع يكاد يكون أمراً واقعاً، ولكن بنظرةٍ فاحصةٍ، وبجمع طرق روايات الحديث، واستقصاء ألفاظه نتوصَّل إلى حقيقتين:
الأولى: إنَّه لا يمكن ترجيح الآية على الحديث هنا لأن أحاديث زيادة العمر تصل إلى درجة التَّواتر، فالآية والحديث كلاهما متواترٌ (2).
الثَّانية: -يجب المصير إلى الجمع، ومن خلال النَّظر في أجوبة العلماء عن هذا الحديث يمكن أن تحمل أقوالهم في الحديث على أمرين.
1 - الزِّيادة الحقيقيَّة، وهذا ما ذهب إليه عددٌ من العلماء منهم: ابن قتيبة (3)، وابن فُورَك (4)، وابن حجرٍ العَسْقَلانيُّ فقال (5): (وثانيها: إنَّ الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنِّسبة إلى علم الملك المُوكَّل بالعمر، وأمَّا الأوّل الّذي دلّت عليه الآية فبالنِّسبة إلى علم الله تعالى، كأن يُقال للملك مثلاً: إنَّ عمر فلانٍ مِئة سنةٍ مثلاً إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنَّه يصل أو يقطع، فالّذي في علم الله لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، والّذي في علم الملك هو الّذي يمكن فيه الزِّيادة والنَّقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (6) فالمحو والإثبات بالنِّسبة لما في علم الملك، وما في أمِّ الكتاب هو الذي في علم الله- تعالى- فلا محو فيه ألبته).
فحَمْلُ الزِّيادة على الحقيقة أمرٌ يقبله العقل، ويؤيِّده النَّقل، لما في هذا القول من وجاهةٍ، واحتمال للصَّواب، وذلك بالتَّفريق بين علم الله الأزليِّ، وما هو معروفٌ عند الملَك المُوكَّل بالأجل والرِّزق وما إلى غير ذلك.
وهذا التَّفسير اختاره الغُماريُّ (1) واقتصر عليه فقال (2): (للمسلم عُمْران؛ عمرٌ محدَّدٌ عند الله لا يُعلم غيره، وعمرٌ مُردَّدٌ بين الزِّيادة والنَّقص عند ملَك الموت، يقال له: عمر فلانٍ سبعون سنةً إن تصدَّق أو برَّ والديه، وخمسون سنةً إن لم يفعل ذلك، وهذا هو المُراد في الحديث).
2 - الزِّيادة المجازيَّة، أي إنَّ هذه الزِّيادة كنايةٌ عن البَركة في العُمر بسبب التَّوفيق إلى الطَّاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة (3)، وفي " نوادر الأُصول " (4): " إنَّ العبدَ إذا عُمِر بالإيمانِ َوبِحياةِ القلب فذلك كثيرٌ وإن قلَّ مدته، لأنَّ القِصَر من العُمْر إذا احتشى من الإيمان أربى على الكثير لأنَّ المتبقي من العمر العبودية لله- تعالى-، كي يصير عند الله وجيهاً".
أو السَّعة والزِّيادة في الرِّزق وعافية البدن، وقد قيل: " الفقر هو الموت الأكبر" (5) وانفرد ابن فُورَك بتفسيرٍ للزِّيادة فقال (6): " إنَّ معنى الزِّيادة في العمر: نفي الآفات عنهم والزِّيادة في أفهامهم وعقولهم وبصائرهم ".
وهناك فهمٌ آخر للزِّيادة يمكن استنتاجه من جمع ألفاظ الحديث، والمقارنة بينها، وهو أنَّ زيادة العمر هي بقاء أثر الواصل بعد موته، وهذا مأخوذٌ من بعض ألفاظ الحديث مثل (7):" مَنْ سَرَّه أن يُبسَط لَه في رِزقه، ويُنْسأُ لَهُ في أثره فَليَصِل رَحِمَهُ".
وهذا الفهم نقله صاحب "فيض القدير" (1)، عن الزَّمَخْشريِّ أنَّه قال: معناه أنَّ الله يُبقي أثر واصل الرَّحم في الدُّنيا طويلاً، فلا يضمحلّ سريعاً كما يضمحلُّ أثر قاطع الرَّحم. فحُمِل الأجل هنا على الأثر، وهو تأويلٌ سائغٌ، وتفسيرٌ محتملٌ.
¥