تأمل السياق الذي وردت فيه هذه الآية، وانظر ـ تكرمًا ـ إلى ما قبلها، يقول تعالى:] أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ % وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ % وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ % فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ % وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [] الأنعام: 122 ـ 126 [.
إن الحديث عن حال الكافر وحال المؤمن، ثم ضرب مثالاً بحال الأكابر من المجرمين الذين لا يمكن أن يدخل الإيمان قلوبهم لما فيهم من الكفر والإجرام، ثمَّ بين سبحانه مشيئته في الهداية والإضلال، وذكر أن من أراد هدايته، فإنه يشرح صدره للإيمان به وييسره له، ومن أراد له الضلال، فإنه يجعل صدره في حال ضيق وحرج شديد، ولو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه، كما لا يستطيع الإنسان أن يصعد في السماء.
قال الطبري:» القول في تأويل قوله تعالى:] كأنما يصعد في السماء [: وهذا مَثَلٌ من الله ـ تعالى ذكره ـ ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه؛ مثل امتناعه من الصعود إلى السماء، وعجزه عنه؛ لأن ذلك ليس في وسعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ... «.
ثم ذكر الرواية عطاء الخراساني، قال: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء.
وعن ابن جريج: يجعل صدره ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخله، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه.
وعن السدي: كأنما يصعد في السماء من ضيق صدره.
وتقدير المعنى عندهم: إن عدم قدرة الكافر على الإيمان كعدم قدرة الإنسان على الصعود إلى السماء، ويكون الضيق والحرج بسبب عدم قدرته على الإيمان لا بسبب التصعد في السماء.
وتفسيرهم لا يعيد التشبيه إلى الضيق والحرج، وإنما إلى الامتناع من الإيمان وعدم القدرة عليه.
وانشراح النفس للإيمان سابقة له، فمن يشاء الله له الهداية يشرح نفسه له، كما أن من أراد الله له الكفر فإنه يجعل صدره ضيقًا حرجًا، فلا يستطيع أن يؤمن بالله، وهو ممتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان.
وهذا التفسير من دقائق فهم السلف، وتفسيرهم يرجع إلى لازم معنى الجملة الثانية، وهي جعل الضيق والحرج في صدر الكافر، إذ من لازمه أنه لو أراد الإيمان فإنه لا يستطيعه، كما لا يستطيع الإنسان الصعود للسماء، فنبهوا على هذا اللازم الذي قد يخفى على كثير ممن يقرأ الآية.
وفي تفسيرهم إثبات القدر، وأن الله يفعل ما يشاء، فمن أراد الله هدايته شرح صدره، ومن أراد ضلاله ضيَّق صدره وجعله حرجًا لا يدخله خير، وفي هذا ردٌّ على القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله.
أما البحث التجريبي المعاصر فقد كشف عن قضية تتعلق بالصعود إلى الأجواء العليا، حيث وجد أن الإنسان تتناقص قدرته على التنفس الطبيعي درجة بعد درجة كلما تصاعد إلى السماء، وسبب ذلك انخفاض الضغط الجزئي للأكسجين في طبقات الجو العليا، وقد جعل أصحاب الإعجاز العلمي هذه الظاهرة الكونية تفسيرًا للحرج الذي يصيب الكافر بسبب عدم قدرته على الإيمان.
وقد جعلوا التشبيه يعود إلى الضيق والحرج، والمعنى عندهم: إن حال ضيق صدر الكافر المعرض عن الحق وعن قبول الإيمان بحال الذي يتصعد في السماء.
وذكر وجه الشبه، وهو الصفة المشتركة بينهما: ضيقًا وحرجًا، وجاء بأداة التشبيه (كأن) ليقع بعدها المشبه في صورة حسية واضحة ...
¥