فانظروني تبصروه إنه والله أنيوقد سئل مرة وهو في درس تفسيره بالجامع الكبير بتطوان عن الدليل على وجود الله, فاطرق مليا ثم رفع رأسه وقال ارتجالا:
نحن في مذهب الغرام أذلهْ *إن أقمنا على الحبيب أدلهْ
كيف يظهر للعقول سواه *وسناه كسا العوالم جملهْ
فتراه في كل شيء تراه *فهو الكل دائما ما أجلهْ
فافْنَ فيه صبابة وهياما *إنما الصب من يعيش مولهْفتراه في كلمته هذه يخلط وحدة الشهود بوحدة الوجود تلبيسا وتدليسا, وهدفه واحد, وهو قوله: (فهو الكل دائما ما أجله) ,وقد زعم مريدوه أنه لما أنشأ هذه الأبيات وأملاها على السامعين, انشق الكرسي الخشبي الذي كان جالسا
عليه () ,قالوا: وهو الكرسي الموجود إلى الآن بالجامع, والشق فيه ظاهر, ولكن هذه خرافة.)
ومن أزجاله المعبرة:
نلت ما نويت *لما رأيت حبي *وذاتي رأيت *مده لي ونا مهجور *وأنا الحبيب
وسري عني مستور *وهو قريب لله يا صاح وانظر *ذا الأمر العجيب *عني قد خفيت
وشمسي مني تطلع *ونا ما دريت *هذا المحبوب إذا رضا *يرضى كل شيء *واللي يهوى وصالو
ذاتو يطوي طي *وعلى جهاتو دايم *ما يبقى لو راي *أنا من هويت *وخمري مني اشربت
وعني رويت يا طالب الحقيقا *اسمع ما أقول *منك هي الطريقا *ولك الوصول
فزل تراك حقا *بعد ما تزول *إليك انتهيت *وليس ثم غيرك *وبك بقيتويقول في زجل آخر:
ما يلي في غرامك جهات *كل شيء هو عين الذات
غير سرك يظهر في قوالب المعاني *معروف بعلايم الرضاوله من هذا الكثير ,وفي شعره العربي تائية مشهورة, وهي التي يتغنى بها القوالون فيما يسمى حلق الذكر, أو (العمارة) , أي الرقص, وقد شرحها المكي بن سودة, وشرحه مطبوع على الحجر ,كما شرحها بعده ابن القاضي العباسي الفاسي في مجلدين, وهو مخطوط, وقد نحى فيها منحى ابن الفارض على قصور في المبنى والمعنى, وفي مطلعها يقول:
أتطلب ليلى وهي فيك تجلت *وتحسبها غيرا وغيرك ليست
فذا بله في ملة الحب ظاهر *فكن فطنا فـ (الغير) عين القطيعة
ومن تأمل ديوانه وهو مطبوع, وجده يدور كله حول وحدة الوجود والاتحاد في شعره الموزون عالة على ابن الفارض والششتري, فتراه إذا قرأ قطعة لهما وأعجبته حاول موازنتها, يعرف هذا بالمقارنة.
ومن أقران الحراق في هذا المجال, أحمد بن عجيبة التطواني, إلا أنه لم يستطع مجاراته في النظم, وأتى بأنظام كثيرة, إلا أنها ركيكة مختلة الوزن, ضعيفة النسج, وإنما له القدح المعلى في النثر, فقد ملأ كتبه كلها إلا القليل من هذا البلاء, وأبدأ وأعاد بأساليب متنوعة, يتخللها التكرار والألفاظ الاصطلاحية المملة, ولا سيما في تفسيره (البحر المديد) , الذي من قرأه ـ وهو مؤمن موحد ـ جزم بأنه تفسير باطني محض, وأنه من التفسير بالرأي حتما, وأنه عبث بالقرآن, نسأل الله العافية, وله عبارة واحدة منظومة تطوي فكرته كلها حول هذا الموضوع, وهي قوله في كتابه (الفتوحات الإلاهية, شرح المباحث الأصلية ص347):
إياك أن تقول أناه *واحذر أن تكون سواه
وممن أدلى من المعاصرين بدلوه, الشيخ محمد بن الصديق الغماري, فنظم قصيدة رائية ليس له غيرها , وخمسها نجله الأكبر أبو البيض أحمد, وهي غاية في الركاكة والاختلال والضعف, ومع هذا فمريدوه يتغنون بها ومنها:
شربنا مع ذكر الحبيب حلاوة *فهمنا بها عن كل ما يشغل الفكرا
ونزهنا أفكار العقول عن (السوى) *وتهنا دلالا عند سماعنا الذكرا
ومالت منا الأطراف شوقا إلى اللقا *ففاضت دموع العين والقلب في البشرى
وبدا لنا سر جمع قلوبنا *فغبنا بها عن كل من يزعم النكرا
ذهبت عنا الأكدار فلم يبق لنا *مع الذكر شيء يؤلم سرا أو جهراوبقيتها أحط وأركُّ, وأنزل منه درجة نظم أحمد بن عليوة المستغانمي, ففي ديوانه وهو مطبوع سخافات لا تتزن بعروض ولا ميزان, إلا النغم والغناء عندهم, وبالجملة فإن مفاهيم هذه العقائد الضالة بينة, تدرك بأدنى تأمل, ولاسيما من خالط القوم وقرأ كتبهم وأشعارهم, ومن تصفح كتابي ابن العربي, الفتوحات المكية, وفصوص الحكم, أدرك بما لا يدع مجالا للشك أن الرجل, أعني أبا البيض غال وغارق إلى ذقنه في وحل هذا البلاء الماحق, وأنه أفنى عمره في (أن لا موجود إلا الله) تعالى, وأن جميع الممكنات مظاهر له, يتجلى فيها جميعِها, لا في بعضها دون بعض, فهي ليست إلا مظاهر للحق الظاهر فيها, ولولاه لكانت عدما, ولقد أكثر ابن العربي في
¥