بل إن المغتاب في الحقيقة يقدم حسناته إلى من يغتابه، حتى إن عبد الرحمن ابن مهدي - رحمه الله – قال: "لولا أني أكره أن يعصى الله، لتمنيت أن لا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها" (سير أعلام النبلاء 9/ 195.)
وأما ما يفعله بعض من ينتسب إلى الدعوة في هذا الوقت من غيبة الآخرين بحجة التقويم والإصلاح، فإنه ينبغي لهم قبل أن يتكلموا في غيرهم أن يتدبروا عدة أمور:
أولاً: يسأل نفسه، ما هو الدافع الحقيقي لكلامه في غيره؟ هل هو الإخلاص والنصح لله ورسوله وللمسلمين؟ أم هو هوى خفي، أو جلي؟ أم هو حسد وكراهية له؟!
فإنه كثيراً ما يقع الأشخاص في غيبة غيرهم بسبب أحد الأمور المذمومة السابقة، ويظن أن دافعه هو النصح وإرادة الخير، وهذا مزلق نفسي دقيق قد لا ينتبه له كثير من الناس إلا بعد تفكر عميق وبإخلاص وتجرد لله تعالى (وللمعلمي في التنكيل 2/ 180 كلام نفيس جداً عن اتباع الهوى، ذكر فيه بعض مزالق الهوى الخفية)
ثانياً: ينظر في هذا الدافع الذي دفعه للكلام في أخيه المسلم، هل هو من الحالات التي تجوز فيها الغيبة أم لا؟ (وانظر ما ذكره الشوكاني في كتابه: رفع الريبة عما لا يجوز من الغيبة)
ثالثاً: أن يتأمل كثيراً قبل أن يقدم على الكلام في الآخرين: ما هو جوابي عند الله تعالى يوم القيامة إذا سألني: يا عبدي فلان لم قلت في فلان كذا وكذا؟
وليتذكر أن الله تعالى يقول: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)) [البقرة 235].
* القاعدة الثانية
تقديم حسن الظن بالمسلم:
والأصل في هذه القاعدة هو قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا)) (الحجرات 12)
فأمر الله عز وجل باجتناب كثير من الظن لأن بعض هذا الكثير إثم، وأتبع ذلك بالنهي عن التجسس، إشارة إلى أن التجسس لا يقع في الغالب إلا بسبب سوء الظن.
وأمر المسلم - في الأصل - قائم على الستر وحسن الظن به، ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بحسن الظن عند سماعهم لقدح في إخوانهم المسلمين، بل وشدد النكير على من تكلم بما سمع من قدح في إخوانه.
ففي حادثة الإفك، عندما قيل ما قيل، بيّن الله عز وجل الموقف الصحيح الذي ينبغي لكل مسلم أن يقفه، فقال سبحانه وتعالى: ((لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)) ثم بيّن سبحانه وتعالى أن التلفظ بهذا الكلام ونقله أمر عظيم، فقال سبحانه وتعالى: ((إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (*) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)) ثم وعظنا الله عز وجل أن نعود إلى الوقوع في مثل هذا الذنب العظيم فقال: ((يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))
وقد بيّن سبحانه وتعالى أن مجرد نقل الجرح في الآخرين بلا ضرورة شرعية، وبلا تثبت وروية، أنه إثم، فقال سبحانه وتعالى: ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ))
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" (أخرجه مسلم في المقدمة برقم 5)
وبوب الإمام مسلم في مقدمة الصحيح: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، وأورد تحته الحديث السابق، كما أورد قول الإمام مالك لابن وهب: إعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدث بكل ما سمع.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع (المرجع السابق 1/ 10 - 11.)
وقد أمر الله عز وجل بالتثبت من الأخبار فقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) (الحجرات 6)
* القاعدة الثالثة
¥