وقال تعالى: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) (الليل:19 - 20)، " أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى" كذا قال القرطبي "تفسير القرطبي" (20/ 88).
فنسبة بعض نعم الرب إلى خلقه، نسبة المسبَّبات إلى أسبابها، وليس ثمة حرج في ذلك إذا اعتقد أن الله هو الذي قدرها ويسرها، ولولاه سبحانه لما حدثت نعمة ولا حصل إحسان إذ هو الذي خلق السبب والمسبب.
يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – في معرض حديثه عن الشرك في الربوبية: "فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل. فمن شهد أن المعطي أو المانع أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك فلينظر إلى المعطي الأول مثلاً فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافيه عليه، لقوله عليه السلام: "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم يتجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " (رواه أبو داود (ح1672) والنسائي (5/ 82) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما) لأن النعم كلها لله تعالى، كما قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) (النحل: 53) وقال تعالى: (كُلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) (الإسراء: 20) فالله هو المعطي على الحقيقة فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطي هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره. فهو الأول والآخر" اهـ "مجموع الفتاوى" (1/ 92).
3 - ويقول المخالف "الذخائر" (ص158):
ما أرسل الرحمن أو يرسل ... من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه ... ومن كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده ... نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها وأصل لها ... يعلم هذا كل من يعقل
قلت: وهذا شرك آخر في الربوبية، إذ ما الذي أبقاه للرحمن من صفة الرحمة إذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أصلاً لكل رحمة في ملكوت الله وملكه تصعد أو تنزل؟!
كلا. بل ما من رحمة في الأرض ولا في السماء ولا في بر ولا في بحر إلا من عند الرحيم الرحمن الكريم المنان. قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) (الأعراف: 156)، وجاء في دعاء ملائكته: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) (غافر: 7).
وقال سبحانه (وربك الغني ذو الرحمة) (الأنعام:133)، وقال: (وربك الغفور ذو الرحمة) (الكهف:58).
وقد تواتر ذكر رحمة الله في القرآن وشمولها للعالمين في كل وقت وفي كل حين، فمن آثار رحمته إرسال الرياح (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) (الفرقان:48)، وإنزال المطر (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) (الشورى: 28)، وإحياء الأرض (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) (الروم:50).
ومن رحمته إنزال القرآن (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: 89).
والنبوة من رحمته، يختص بها من يشاء من عباده، كما قال سبحانه عن عبده نوح عليه السلام: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده) (هود: 28) قال ابن جرير – رحمه الله -: "ورزقني منه التوفيق والنبوة والحكمة " " تفسير ابن جرير " (15/ 298).
وقال عن عبده صالح عليه السلام: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته) (هود:63).
قال ابن جرير – رحمه الله -: "وأتاني منه النبوة والحكمة والإسلام" "تفسير ابن جرير" (15/ 370).
وأخبر سبحانه عن تعنت المشركين واعتراضهم على اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم من دونهم فقالوا: (لولا نُزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) قال الله تعالى رداً عليهم: (أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمت ربك خير مما يجمعون) (الزخرف:31 - 32).
¥