قال القرطبي – رحمه الله -: " (أهم يقسمون رحمة ربك) يعني النبوة، فيضعونها حيث شاءوا؟ (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي أفقرنا قوماً وأغنينا قوماً، فإذا لم يكل (في النسخة المطبوعة (يكن)، ولعل الصواب ما أثبته) أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم " اهـ "تفسير القرطبي" (16/ 83).
قلت: ولا شك أن هداية الخلق إلى دين الإسلام وتثبيتهم عليه حتى الممات ثم إدخالهم الجنة من أعظم نعم الله على العباد ورحمته بهم، ومن ثم كانت بعثة الأنبياء رحمة لأقوامهم لأنهم سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولما كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وصفه الله بقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء:107).
قال ابن عباس: "كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق " اهـ "تفسير القرطبي" (11/ 350).
فإرساله صلى الله عليه وسلم رحمة من عند الله على العالمين من الجن والإنس لعموم رسالته إليهم، كما أنها رحمة وإنعام وتشريف وإكرام للنبي عليه الصلاة والسلام حيث اصطفاه لرسالته الخاتمة وشريعته الناسخة لما سبقها من الشرائع.
ومن رحمته كذلك، أن جعل هذا النبي الخاتم رؤوفاً رحيماً بهم وجبله على هاتين الصفتين كما قال سبحانه وتعالى ممتناً على عباده المؤمنين: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (التوبة: 128).
وقال: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران:159).
قال ابن جرير – رحمه الله -: "فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك (لنت لهم) لتُبَّاعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم " اهـ "تفسير ابن جرير" (7/ 341).
إذاً فما كانت من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكذا كانت بعثته ونبوته، فهو سبحانه الذي أوجدها وقدرها وساقها إلى من شاء من عباده، كما قدر غيرها من أسباب الرحمة مما تقدم ذكره، فآثار رحمته جل وعلا على عباده ظاهرة في كل حال.
وكما قيل في مسألة الإنعام والتفضيل والإحسان، يقال كذلك في مسألة الرحمة، إن موجدها ومسببها ومقدرها هو الله وحده لا شريك له، فإليه تنسب أصلاً، كما تنسب إلى من أجرى الله على يديه نعمة أو رحمة، على أنه سبب من الأسباب، تبعاً.
ومن هنا تعلم ضلال هذا المخالف الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وراء كل رحمة " تصعد أو تنزل، من كل ما يختص أو يشمل " إذ هذا الوصف لا يليق إلا بالرحمن الرحيم، فكل رحمة في الكون فهي جزء من رحمته كما فصل ذلك في القرآن الكريم فيما تقدم من آيات بينات، وكما فصله النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ووقائع متعددة ومنها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي" متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/ 239).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/ 240).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. قال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/ 240).
¥