قال الحافظ "فتح الباري" (10/ 431): "وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده، وأن كل من فُرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه، فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة " اهـ.
قلت: وهو كلام نفيس جداً فعض عليه بالنواجذ.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سددوا وقاربوا وابشروا، فإنه لا يُدخل أحداً الجنة عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة " متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/ 284).
4 - ويقول المخالف أيضاً "الذخائر" (ص223)، في معرض حديثه عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: "وكان يُقطع الأراضي قبل فتحها لأن الله ملَّكَه الأرض كلها، وله أن يقطع أرض الجنة من باب أولى صلى الله عليه وسلم ".
قلت: وهذا من الشرك الصريح في الربوبية، إذ أن الذي يملك الأرض ومن عليها هو الله وحده لا أحد سواه، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر.
قال تعالى: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة) (الزمر: 10)، وقال: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (العنكبوت:56)، وقال على لسان عبده صالح عليه السلام: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله) (هود:64)، وقال تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) (الأعراف: 128).
وقد تواترت آيات الذكر الحكيم على تقرير ملكية الله تعالى للسماوات والأرض وما بينهما، في أكثر من ثلاثين موضعاً، كقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) (البقرة:107)، وقوله: (لله ما في السموات وما في الأرض) (البقرة:284)، وقوله: (ولله ميراث السموات والأرض) (آل عمران:180)، وقوله: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله) (الأنعام: 12).
وكقوله: (له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه:6)، وقوله: (له مقاليد السموات والأرض) (الزمر: 63)، وقوله: (ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقون: 7).
وقد رد الله عز وجل بهذه الآية على المنافقين القائلين: (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا)، فلو كان للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في الأرض لناسب ذكره في هذا الموضع، إعلاماً لقدر نبيه صلى الله عليه وسلم وتبكيتاً لعدوه الذي أراد بمقالته تلك ازدراء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من فقراء أصحابه وتعييرهم بالفقر والحاجة.
وقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) (سبأ:22).
قال ابن كثير – رحمه الله - (3/ 536): "بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا نظير له ولا شريك له بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) أي من الآلهة التي عبدت من دونه: (لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) كما قال تبارك وتعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) (فاطر: 13).
وقوله تعالى: (وما لهم فيهما من شرك) أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة، (وما له منهم من ظهير) أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه "اهـ.
قلت: فهذه الآية من أوضح البيان على المطلوب، إذ صرحت بنفي ملكية شيء في السموات والأرض ولو كان مثقال ذرة، عن كل الأنداد المعبودة من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين لا استقلالاً ولا على سبيل الشركة.
إذاً فمن زعم أن أحداً من الخلق يملك ذرة في هذا الكون مع الخالق، فقد أشرك شركاً بيناً، وافترى إثماً عظيماً، وكذب بالقرآن تكذيباً مبيناً، فكيف بمن زعم أن الأرض كلها ملك خالص للمخلوق لا شركة فيه للخالق؟!!
وحسب هذا القائل إثماً وظلماً أن يكفر بما آمن به عبدة الأوثان في الجاهلية الأولى، الذين شهد لهم القرآن إقرارهم بربوبية الخالق وملكيته التامة للأرض ومن فيها.
¥