ومن حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها لما قالت: إحدى الجويريات وهي تغني: "وفينا نبي يعلم ما في غد" قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين " رواه البخاري (9/ 202).
فصل: أقوال السلف في مسألة علم الغيب
ونختم الكلام عن هذه المسألة بعرض جملة من أقوال السلف في حكم من نسب علم الغيب إلى أحد من الخلق ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم، مع كفاية الأدلة السابقة من نصوص الكتاب والسنة في بيان المطلوب (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
1 - أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فقد صح عنها أنها قالت: "من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب" ثم قرأت (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) " متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان " (1/ 41).
وفي لفظ: "من حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب" أخرجه البخاري (13/ 361).
وذكر الحافظ ("فتح الباري" (13/ 364)) أن الضمير في قولها " أنه " يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لوقوع التصريح به في بعض الطرق.
2 - الإمام ابن القيم رحمه الله.
قال "المنار المنيف" (ص81 - 84): (وقد جاهر بالكذب بعض من يدعي في زماننا العلم، وهو يتشبع بما لم يعط، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم متى تقوم الساعة. قيل له: فقد قال في حديث جبريل: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، فحرفه عن موضعه وقال: معناه أنا وأنت نعلمها! وهذا من أعظم الجهل وأقبح التحريف. والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله من أن يقول لمن كان يظنه أعرابياً: أنا وأنت نعلم الساعة. إلا أن يقول هذا الجاهل: إنه كان يعرف أنه جبريل. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصادق في قوله: "والذي نفسي بيده ما جاءني في صورة إلا عرفته، غير هذه الصورة " (" مسند أحمد " (1/ 53)).
ثم قوله في الحديث: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" يعم كل سائل ومسئول. ولكن هؤلاء الغلاة عندهم: أن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم منطبق على علم الله سواء بسواء، فكل ما يعلمه الله يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى يقول: (وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم). وهذا في "براءة " وهي من أواخر ما نزل من القرآن، وهذا والمنافقون جيرانه في المدينة.
ومن هذا حديث عقد عائشة رضي الله عنها لما أرسل في طلبه فأثاروا الجمل فوجدوه (متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/ 75)).
ومن هذا حديث تلقيح النخل، وقال: "ما أرى لو تركتموه يضره شيء" فتركوه فجاء شَيْصَاً، فقال: "أنتم أعلم بدنياكم " (رواه مسلم (2363) من حديث أنس وعائشة).
وقد قال تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب).
وقال: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير).
ولما جرى لأم المؤمنين عائشة ما جرى ورماها أهل الإفك بما رموها به، لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم حقيقة الأمر حتى جاءه الوحي من الله ببراءتها.
وعند هؤلاء الغلاة: أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم الحال على حقيقته بلا ريبة، واستشار الناس في فراقها ودعا الجارية فسألها، وهو يعلم الحال، وقال لها: "إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله" (رواه البخاري (8/ 453) ومسلم (2770)) وهو يعلم علماً يقيناً أنها لم تلم بذنب!
ولا ريب أن الحامل لهؤلاء على هذا الغلو إنما هو اعتقادهم أنه يكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة، وكلما غلوا وزادوا غلواً فيه كانوا أقرب إليه وأخص به!
فهم أعصى الناس لأمره، وأشدهم مخالفة لسنته. وهؤلاء فيهم شبه ظاهر من النصارى الذين غلوا في المسيح أعظم الغلو، وخالفوا شرعه ودينه أعظم المخالفة " اهـ.
3 - الحافظ ابن كثير رحمه الله.
أطال في تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي .. ).
فقال "تفسير ابن كثير" (2/ 272 - 273): "أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إذا سُئل عن وقت الساعة أن يَرُدَّ علمها إلى الله تعالى فإنه هو الذي يجليها لوقتها، أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد، لا يعلم ذلك إلا هو تعالى.
(ثقلت في السموات والأرض) قال قتادة: ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم لا يعلمون. وقال السدي: خفيت في السموات والأرض فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل ".
¥