الثالث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست ذكراً له، بل هي دعاء المصلي ربه أن يصلي على نبيه، فهي من جنس دعاء المؤمن لأخيه، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بأن المشروع في حقه الصلاة والسلام، بخلاف سائر المؤمنين إذ يدعو بعضهم لبعض بخيري الدنيا والآخرة.
والدليل على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، حديث زيد بن خارجة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا علي فاجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد " رواه النسائي (3/ 49).
وجاء في حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت، قال: قلت: الربع؟ قال: ما شئت " إلى أن قال: " قلت: أجعل لك صلاتي كلها .. " الحديث رواه الترمذي (4/ 636).
قال الإمام المنذري ("الترغيب والترهيب" (2/ 501)): (قوله " أكثر الصلاة فكم أجعل لك من صلاتي "؟ معناه: أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك) اهـ.
قلت: ومما يؤكد أن المخالف يقصد معنى آخر سوى الصلاة، ما تقدم من خصائصه المزعومة التي صرح فيها بمذهبه ومعتقده في الرسول صلى الله عليه وسلم ومضاهاته بالله سبحانه في خصائص الألوهية والربوبية.
ويؤكده أيضاً، قوله السابق عن الملائكة الكرام وعن جبريل عليه السلام، فليس الذكر بأعظم من السجود والإلحاد في الأسماء الحسنى.
وقد تضمن قول المخالف: " لسناك حين بدا بآدم أقبلت، رعياً لسيماك الملائك تسجد " جملة من المخالفات:
منها: أن فيه تكذيباً لصريح القرآن، إذ تواترت الآيات على ذكر خبر سجود الملائكة لآدم وأنه كان طاعة للخالق سبحانه إذ أمرهم بذلك السجود، كما في قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) (البقرة:34)، وكقوله تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) (ص:71 - 74).
وجاء في حديث الشفاعة الطويل أن الناس يقولون لآدم عليه السلام: " أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك " متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/ 50).
فاتفقت نصوص القرآن والسنة على أن سجود الملائكة كان لآدم لا لغيره من البشر.
وعارض المخالف تلك الأخبار كلها وكذب كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن السجود كان من أجل سناه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) (الزمر:32).
ومنها: أن فيه اعتراضاً على قدر الله وحكمه وأمره.
فقد قضى الله عز وجل أن يكون سجود ملائكته لآدم دون غيره، وأمرهم بذلك فأطاعوا له وأذعنوا كلهم أجمعون، إلا إبليس اللعين أبى واستكبر وقال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (ص:76).
واعترض المخالف على قدر الله وعارض حكمه وأنكر استحقاق آدم عليه السلام لسجود الملائكة، وقال: بل محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالسجود منه.
فتأمل – رحمك الله – ذلك التشابه بين الشيطانين في الكفر والاستكبار عن أمر الواحد القهار!
ومنها: أن فيه اتهاماً مبيناً وبهتاناً عظيماً لعباد الله المكرمين، إذ زعم أنهم قابلوا أمر الله عز وجل بالعصيان والاحتيال، أُمروا بالسجود لآدم عليه السلام فسجدوا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وحاشا لله أن يفعلوا ذلك، (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).
وأما قول المخالف "كلما لحت للملائك خروا، في السموات سجداً وبكياً". فهو أعظم في الإفك وأبلغ في الظلم والافتراء، إذ قذفهم بأعظم الذنوب وأكبرها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين وعند الملائكة المكرمين.
(ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) (النساء:112).
وحسبنا في الرد على هذه الفرية النكراء أن نسأل هذا الأفاك، من أين له ذلك السجود المزعوم؟
¥