عندما تعين النظام بالمغرب (وكنت لا أزال صبيا صغيرا)، تأثر – رحمه الله – شديد التأثر، وعزم على الهجرة للمدينة المنورة، فباع جل كتبه، وشرع في بيع دار سكناه، فقامت الحرب العظمى الماضية، فاضطر – رحمه الله – للانتظار، ثم انتهت باحتلال البلاد العربية التي كانت تابعة لتركيا، واختلال الأحوال بالحجاز، فبقي – رحمه الله – ينتظر استقرار الأمور للرحيل حتى فاجأه الموت وهو على هذه النية رحمه الله.
ومع أنه قضى تحت هذا النظام نحوا من أحد عشر سنة فإنه لم يجتمع ولا مرة واحدة بأي أحد من رجاله، ولم يحضر لهم احتفالا بقدوم سفر أو عيد أو أية مناسبة من المناسبات، مع كثرة ما كان يقام من ذلك إذذاك، ومن عرف تاريخ تلك الأيام وشدة حرص الرجال الجدد على التعرف بالناس واستمالتهم – خصوصا من كانت له مكانة بين الناس - وعرف مختلف الوسائل التي كانت تتخذ للوصول لذلك، وعرف أن من كان يحيى مثل حياة الفقيد – رحمه الله – قمين بأن يكون له كثير من الأعداء والحسدة والطاغين، وعرف أن كثيرين ممن كانوا من طبقته قد سلكوا نحو هذا النظام مسلك التقية والمداراة، عدو ممن أيدوه وانغمسوا في حمأته.
وعرف شدة حكم الإرهاب الذي كان مصلتا فوق الرقاب، وسهولة الأخذ بالظنة، والإعدام لأقل شبهة، والوقت وقت إقرار نظام جديد، ثم وقت حرب طاحنة تبعث على الشك والارتياب لموجب ولغير موجب. ناهيك بمن هاجر أخوه من قبله، فأصبح إذ ذاك تحت حكم دولة معادية وهو على نية اللحاق به، لا يستر ذلك ولا يحجم به.
نقول: إن من عرف ذلك؛ عرف أنه لا يستطيع أن يقف ذلك الموقف السلبي الحازم الصريح إلا من كانت له شجاعة نفسية وإيمان متين.
ومما أستحضره من مواقفه الغريبة في الباب: أنه في إحدى السنوات قومت دارنا لأداء ضريبة المباني تقويما مرتفعا، فبلغ ذلك لبعض أعيان الحومة الذين كانوا يساعدون الإدارة الجديدة في مثل هذه الأمور، ولعله الحاج محمد مكوار، فانتقد ذلك لديهم. فبينما نحن في إحدى الأصبحة؛ إذا بمقدم الحومة يأتينا مخبرا أن الكمندان (فلان) سيأتي لزيارتنا في الساعة الثانية بعد الظهر لإعادة النظر في تقويم الدار، ويؤكد على الوالد – رحمه الله – في انتظاره في الوقت المحدد.
ومع أن العرف الجاري إذ ذاك يقضي بإعداد حفلة لطيفة لاستقبال الضيف والترحيب به، والتقرب له؛ فإن الوالد – رحمه الله – اغتم لهذا النبأ أشد الغم، ثم أرسل إلى تلميذه سيدي أحمد القادري وطلب إليه أن ينوب عنه في استقباله وإجابته عن أسئلته، والاعتذار عنه إن سأل عنه. ثم جلس هو في الفوقي مع النساء يدعو الله تعالى حتى خرج الزائر بعدما قضى ثلاثة أو أربعة دقائق في مشاهدة الدار والسؤال عما بها من المرافق.
وأدخل لدارنا صبي صغير راية فرنسية، فمزقها له – رحمه الله – ونهاه عن حملها مرة أخرى. وعندما استقر المهاجمون بالبلاد؛ ألزموا السكان برفع الرايات الفرنسية فوق الدور إعلانا للاعتراف بالأمر الواقع، فامتنع – رحمه الله – من تعليقها في سطحنا ولو كانت النتيجة ما عساها أن تكون ...
وتلك كانت عادته مع اليهود أيضا؛ لا ينظر إليهم، ولا يجتمع معهم، وحدث أثناء تجهيز أختي أن اضطر لإحضار يهودي لخياطة الفراش، إذ لم يكن إذ ذاك بفاس مسلم ولا مسلمة يعرف ذلك؟، فكلف الحاج أحمد صفيرة بالنيابة عنه في هذه المهمة، وأفرغنا السفلي مما فيه، وجعلنا به ما يحتاجه (الملعون)، وقضى معه الحاج أحمد يومين. فإذا أراد الوالد – رحمه الله – الدخول والخروج استدبره ومر بحيث لم يواجهه أصلا. وأخبرنا في دروس "المختصر" قبيل وفاته بأقل من شهر – رحمه الله – أنه لم يمر في حياته بالملاح أصلا.
ومن ذلك: امتناعه من الإتيان بالطبيب الكاهن عند مرضه، وقد كان يوصينا في مرض موته بكتمان خبر مرضه ونوعه حتى لا يصل إليهم فيأتون لأخذه بالقوة ويقتلوه كما قتلوا عمه (يعني الشيخ أحمد بن غدريس الكتاني المتوفى سنة 1336 رحمه الله تعالى) وغيره؟.
وقد أدخلت للدار وأنا صغير الرحلة الباريسية بقلم محب المترجم ومقدره ومعتقده السيد عبد الله الفاسي، فغضب – رحمه الله – غضبا شديدا، وضربني ثم مزقها.
¥