ويكفي للتدليل على اعتبار الظن الغالب في المصلحة ما اعترض به الغزالي -رحمه الله- على نفسه حيث قال:» بأن استئصال الكفار للمسلمين أمر مظنون فكيف نجيز قتل الترس بهذا المظنون؟ وأجاب:» إنما يجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع، والظن القريب من القطع إذا صار كلياً، وعظم الخطر منه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه «(18)
يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "كَذِب الظنون نادر وصدقها غالب – أي في المصالح والمفاسد – وكذلك يُبنى جلب مصالح الدارين ودفع مفاسده على ظنون غالبة متفاوتة في القوة و الضعف والتوسط بينهما، على قدر حرمة المصلحة والمفسدة ومسيس الحاجة «(19).
رابعاً: أن تكون المصلحة كلية.
بمعنى ألاّ تقتصر على فئة وتضر أخرى، وهذا الشرط ذكره الغزالي -رحمه الله- كذلك وضرب له أمثلة منها:» إذا كان جماعة في مخمصة، ولو أكلوا واحداً منهم بالقرعة لنجوا «وقال:» لا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، ومثلها لو كان جماعة في سفينة لو طرحوا واحداً منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم، وقال: إنها ليست مصلحة كلية؛ إذ يحصل بها هلاك عدد محصور «(20).
ومما يجدر التنبيه له هنا أن المقصود بكلية المصلحة ليس بأن تعمَّ الأمة جمعاء، بل المراد أن المصلحة المتوخاة لفئة معينة لا ينبغي أن يُنظر فيها إلى قوم منهم دون اعتبار بعضهم ممن هم شهود على هذه المصلحة، وهذا ما أكّده الإمام الزركشي -رحمه الله- في بيانه لمعنى مثال الغزالي -رحمه الله- حيث قال:» وصورة الغزالي إنما هي في أهل محلة بخصوصهم استولى عليها الكفار، لا جميع العالم. وهذا واضح «(21)
فالمصلحة الكلية هنا لا تنفي اعتبار المصلحة الجزئية؛ ولكن إذا حصل التعارض بينهما فلا يُنظر حينئذٍ إلى المصلحة الجزئية في مقابل الكلية. (22)
خامساً: عدم تفويت المصلحة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها.
وهذا الضابط معتبر عند تعارض المصالح في أيهما يُقدّم، ولا شك أن الذي يُقدّم هو الأهم والأولى في الاعتبار، وميزان الأهمية يرجع إلى ثلاثة أمور؛ كما ذكرها د. البوطي:
أولاً: النظر إلى قيمتها من حيث ذاتها ودرجتها في سلم المقاصد. فالضروريات لا تُقدم عليها الحاجيات أو التحسينيات، كما لا تُقدم التحسينيات على الحاجيات، وهكذا فإن كانت المصالح في درجة الأهمية في سلم المقاصد واحدة؛ ينظر حينئذٍ في:
الثاني: وهو من حيث مقدار شمولها، فالمصلحة العامة تُقدم على المصلحة الخاصة فإن كانوا في الدرجة والشمول سواء اعتبر:
ثالثاً: مدى التأكد من وقوع نتائجها من عدمه. فتُقدم الأكيدة على الظنية كما بينا سابقاً (23)
وهناك بعض المعايير المعتبرة أيضاً في تقديم بعض المصالح على بعض عند التعارض منها:
ا- أن المصلحة الدائمة أولى من المنقطعة، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" متفق عليه (24)
ب- أن المصلحة المتعدية أولى من المصلحة القاصرة، مثل مصلحة العلم أولى من مصلحة العبادة.
ج- أن المصلحة الأطول نفعاً تُقدّم على المصلحة المحدودة، مثل تقديم الصدقة الجارية على غيرها (25)
يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-:» والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزَّة لا يهتدى إليها إلا من وفقه الله تعالى، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب «(26).
ويزيد ابن القيم -رحمه الله- هذه القاعدة توضيحاً بقوله:» فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خاصة أو راجحة، وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها، فهذه أقسام خمسة: منها أربعة تأتي بها الشرائع؛ فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له، وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه، فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلها بحسب الإمكان وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان. فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة «(27).
وهذا التقديم والتأخير للمصالح أو المفاسد قد يختلف أحياناً باختلاف أحوال الناس والعوائد وظروف الأزمنة والأمكنة، ولذلك كان من الأمور الدقيقة المهمة، والتي ينبغي فيها على المجتهد أو الناظر أن يكون في غاية التحفظ والحذر.
¥