وسبب الخِلاف معارضةُ عُموم الآيةِ بهذا الخبر، فعموم الآية قوله تعالى: من استطاع اليه سبيلا* يقتضي الوجوب وإنْ لم يكن ذو مَحرمٍ، والحديث يُخصِّصُ ذلك، فمَنْ خصَّصَ الآية به اشترط المَحرم، ومَنْ لم يُخصِّصْها لم يشترط، وقد يَحْمل مالك الحديث على سفر التَّطَوُّع.
ويُؤيِّد مذهبه أيضاً أن يقول: اتُّفِق على أنَّ عليها أن تهاجر من دار الكفر وإنْ لم يكن معها ذو مَحرمٍ لمَّا كان سفراً واجباً، وكذلك الحجُّ. وقد ينفصل عن هذا بأن يقال: إقامتها في دار الكفر لا تَحِلُّ ويُخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التَّأخير عن الحجِّ”.
وأرى أنَّ مَن جمع بين المُتعارضين بحَمْلهما على العُموم والخُصوص فيكون الحديث مُخصِّصاً للآية أقرب للصَّواب من غيره، ولهذا فقد خالف الإمام النَّوَويُّ مذهبه ورجَّح رأي الجمهور الَّذي لا يرى جواز سفر المرأة للحجِّ إلاّ مع زوجٍ أو مَحرمٍ وقال (6):"وهذا هو الصَّحيح للأحاديث الصَّحيحة".
المبحث الثَّاني: تعارض الحديثين
إنَّ التَّعارض بين الأحاديث هو ميدان هذا الفنِّ الأكبر، بل إنَّ الذِّهنَ لينصرف إليه عند سماع كلمة تعارض، وما ذلك إلاّ لكثرته واشتهاره، ولمّا كان الحديث يشمل القول والفعل والتَّقرير، فإنَّ القول قد يتعارض مع القول أو القول مع الفعل، أو القول والفعل مع التَّقرير، وهذه الأمور سوف يكون عليها مدار الكلام في هذا المبحث.
المطلب الأوّل: تعارض القولين:
وهذا الّلون من التَّعارض موجودٌ بكثرةٍ كما مرَّ قبل قليلٍ، وهذا التَّعارض قد يكون صريحاً منطوقاً به في كلا الحديثين، وقد يكون صريحاً في حديثٍ، غير صريحٍ في آخر لكنَّ مفهومه يدلُّ على التَّعارض، وهذه أمثلةٌ على ذلك.
أولاً: ورود التَّعارض بين قولين لفظهما صريحٌ، ومثاله: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: "لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِي فَرِيْضَةٍ، وَإنْ لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إلاّ عُودَ كَرْمٍ أوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ" (1).
وهذا الحديث يتعارض مع أحاديث مُتنوِّعةٍ تُجيز صيام السَّبت، ومنها الحديث الّذي أشار إليه الحاكم بأنَّه معارضٌ لهذا الحديث، حيث قال عند روايته (2):"صحيحٌ على شرط البُخاريِّ ولم يُخرِّجاه، وله مُعارضٌ بإسنادٍ صحيحٍ قد أخرجاه (1): حديث همام عن قتادة عن أبي أيوبٍ العَتَكِيِّ، عن جُويْرِيَّة بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - دخل عليها يوم الجُمعة وهي صائمةٌ فقال: "صُمْتِ أمْسِ"؟ قالت: لا، قال: "فَتُرِيْدِينَ أنْ تَصُومِي غَدَاً "؟ الحديث.
ومنها الحديث الّذي أخرجه البُخاريُّ (2) عن أبي هُريرة قال: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم - يقول: "لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلاّ يَوْمَاً قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ ".
فواضحٌ أنَّ بين هذين الحديثين وحديث النَّهي عن صيام السَّبت تعارُضاً ظاهراً، إذ هما يُجيزان للمرء أن يصوم السَّبت إن صام قبله الجُمُعه، وواضحٌ أنَّ سِياق الحديثين لم تذكرالفريضة فيهما، بل ما تَطوُّعٌ محضٌ، بعكس حديث الباب. ولا يفهم من استشهادي بهذين الحديثين أنَّهما المعارضان لحديث النَّهي عن صيام يوم السَّبت فحَسبُ، إذ أنَّ هناك أحاديث أُخرى يُفهم من سياقها التَّعارض والتَّناقض. ومنها: حديث صيام داود (3) أنَّه كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ممَّا يُوجب أن يقع ضمن صيامه يوم السَّبت مرتين كلَّ شهرٍ على الأقلِّ، وكذلك صيام الأيام البِيْض (4) من كلِّ شهرٍ، فإنَّه لابدَّ أن يُصادف السَّبتُ أحدَ هذه الأيام إلى غير ذلك من الأحاديث المُعارضة.
وعلى هذا فإنَّنا يجب أن نفهم أن هذا الحديث معارضٌ لجملةٍ من الأحاديث، وليس لحديثٍ واحدٍ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء في الحديث، وفي توجيه التَّعارض والتَّناقض في الحديثين، في كلام يطول ويتفرَّع، وسوف يكون كلامي على هذا الحديث من وجهين؛ أوّلهما: النَّظر في صحَّة الحديث، وثانيهما: النَّظر في توجيهه في مقابلة هذه الأحاديث المعارضة له.
أمَّا بالنِّسبة للنَّظر في صحَّة الحديث فقد اختلف العلماء والباحثون قديماً وحديثاً في صحَّة هذا الحديث، وفي حُجِّيته، فمن كاتمٍ ومُكذِّبٍ ومُضَعفٍ له، إلى مُصحِّحٍ له،بل إلى من يضعه في أعلى درجات الصِّحَّة، ويجعله أصلاً تتفرَّع عنه مسائل.
¥