وهناك وجهٌ آخر لتأويل الحديث ذكره القارى وغيره، وهو مُستبعدٌ، بل مُستَغْربٌ، فقال (3): "وقد تُؤوَّل الوائدة بالقابلة لرضاها به، والمؤودة، بالمؤودةِ لها، وهي أمُّ الطِّفل فحُذِفت الصِّلة، إذ كان من دَيْدَنِهم أنَّ المرأة إذا أخذها الطَّلْقُ حفروا لها حفرةً عميقةً فجلست المرأة عليها، والقابلة وراءها ترقب الولد.
فإن ولدت ذكراً أمسكته، وإن ولدت أنثى ألقتها في الحُفرة، وأهالت التُّراب عليها. وهو بعيد كما قدَّمت، ولكنَّ البعض قَدَّمه على قول من جعله بسببٍ خاصٍّ (4).
وعلى هذا فإزالة الإشكال في هذا الحديث تحتمل وجهين:
أولاً: أن نحكم على الحديث بالضَّعف، كما فعل بعض العلماء، ولا نتشاغل بالتماس أوجه التَّوفيق والجمع.
ثانياً: أن نحمل هذا الحديث على سببٍ خاصٍّ قيل فيه، وهو سببٌ وجيهٌ كما بيَّنت قبل قليلٍٍ.
المطلب الثَّالث: توهُّم تعارض مفهوم الكتاب مع مفهوم السُّنَّة:
لم أُرد من هذا العنوان ما يتبادر إلى الذِّهن من تعريف المفهوم في علم الأُصول الّذي جاء فيه بيان المنطُوق والمفهوم، وتعريف المفهوم وتقسيمه إلى مفهوم مُوافَقةٍ ومُخالفةٍ وما إلى ذلك، ولكنِّي أردت ببساطةٍ أن أُظهر توهُّم التَّعارض بين الكتاب (القرآن) والحديث لا من حيث نصُّ كُلٍّ منهما على نقيض الآخر، بل من حيث ما يُستفاد من الآية وتَناقُضُه مع ما يُفهم من الحديث، مُستعيناً بالتَّعريف الأيسر للمفهوم وهو:" حُكم غير المنطوق في النَّص" (1)، ولهذا فالمُراد من المفهوم هنا ما مايُقرأ بين السُّطور.
ومثال ذلك قوله تعالى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبِيْلا} (2) فيُفهم من هذه الآية أنَّ الرِّجال والنِّساء جميعاً داخلون في الخِطَاب، لأنَّ لفظ النَّاس يتناولهما جميعاً، ثمَّ لاستوائهما في التَّكليف.
وهذا النَّصُّ عارضه نصٌّ حدِيثِيٌّ قَيَّده، فعن عبداللّه بن عمر أنَّ النَّبيَّ- صلّى اللّه عليه وسلّم - قال: (3) " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ تُسَافِرَ مَسِيْرَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، إلاّ وَمَعَها ذُومَحْرَمٍ ". فهذا الحديث يدلُّ على عدم جواز سفر المرأة وحدها دون محرمٍ.
ووجه التَّعارض بين الحديث والآية جاء ممَّا يلي:
* إنَّ الحجَّ مكتوبٌ على المرأة كما هو على الرَّجل، والحجُّ غالباً ما يَقْتضِي السَّفر، ممَّا يُوجِبُ على المرأة أن تُسافر لِتحُجَّ.
* ورد في النَّصِّ الحَدِيثيِّ عدم جواز سفر المرأة وحدها دون مَحرمٍ، وعلى هذا فلا يجوز سفرها للحجِّ وحدها كما لا يجوز لغيره، ولهذا تعارض مفهوم الآية الَّذي يُوجب عليها الحجَّ ومن ثَمَّ السَّفر له، ومفهوم الحديث الَّذي منعها من السَّفر بإطلاقٍ ومعه السَّفر إلى الحجِّ.
وهذا ما فَهمه عددٌ من العلماء عندما ذكروا هذا الحديث في أبواب الحجِّ والمناسك، مِمَّا يُعدُّ قولاً لهم في عدم جواز سفر المرأة للحجِّ دون مَحرمٍ.
وقال التِّرْمِذِيٌّ في "الجامع" (1):" والعمل على هذا عند أهل العلم، يكرهون للمرأة أن تسافر إلاّ مع ذي مَحرم.
واختلف أهل العلم في المرأة إذا كانت مُوسِرةً ولم يكن لها مَحرمٌ هل، تحجَّ؟
فقال بعض أهل العلم: لا يجب عليها الحجَّ، لأنَّ المَحرم من السَّبيل لقول اللّه - عزَّ وجَلَّ -: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيْلاً} فقالوا: إذا لم يكن لها مَحرمٌ فلا تستطيع إليه سبيلاً، وهو قول سفيان الثَّوريِّ وأهل الكوفة.
وقال بعض أهل العلم: إذا كان الطَّريق آمناً، فإنَّها تخرج مع النَّاس في الحجِّ وهو قول مالكٍ والشَّافِعيِّ ".
فواضِحٌ أنَّ اختلاف العلماء في هذه المسألة نابعٌ من إدْراكِهم للتَّعارض بين مفهومي الآية والحديث، فتَفَرَّعت بناءً على ذلك مذاهبهم وآراؤهم.
وقد أشار المَازِريُّ لهذا التَّعارض وإلى مذاهب العلماء فقال (2): "أبو حنيفة يشترط في وجوب الحجِّ على المرأة وجود ذي مَحرمٍ، والشَّافِعيُّ يشترط ذلك أو امرأةً واحدةً تحجَّ معها، ومالكٌ لا يشترط من ذلك شيئاً.
¥