فيُفهم من هذا الحديث جواز المشي بين القُبور بالنِّعال، وإلا لم يقل: "ليَسْمع خَفْقَ نِعالِهم". وهذا ما فهمه غيُر واحدٍ من العلماء من هذا الحديث ومنهم الطَّحاويُّ (1) إذ قال قبل روايته لهذا الحديث: "وقد رُوي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ما يدلُّ على إباحة المشي بين القُبور بالنِّعال، ثُمَّ ساق هذا الحديث.
ولإزالة هذا التَّعارض الوارد بين الحديثين لجا بعض العلماء إلى الجمع بينهما وذهب آخرون إلى التَّرجيح.
أمَّا الّذين ذهبوا إلى الجمع فقد قال بعضهم: إن النَّهي الّذي كان في حديث بشير - أي الحديث الأول - للنجاسة التي كانت في النعلين لئلا ينجس القبور، كما قد نهى أن يتغوط عليها أو يبال. والى هذا الرأي ذهب الطحاوي (2) والبيهقي (3)، وأبو عبيد (4) وذكره النووي (5) كأحد أوجه الجمع بين الحديثين.
والتسليم لهذا الرأي فيه نظر اذ يعوزه النقل، ولو كان في النعل قذر أو نجاسة لنقل هذا في احدى روايات الحديث، ولهذا شن ابن حزم بأسلوبه المعهود هجوما على أصحاب هذا الرأي فقال (6): “وقال بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه فقال: لعل تينك النعلين كان فيهما قذر.
قال أبو محمد - أي ابن حزم - من قطع بهذا فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم، اذ قوله ما لم يقل، ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن، وقفاما لا علم له به”.
قلت: فاني وان لم أوافق ابن حزم على عباراته، الا اني أرضى استنتاجه.
وذهب آخرون الى أنه - صلى الله عليه وسلم - وانما نهى عن النعال السبتية - وهي المدبوغة بالقرظ - لما فيها من الخيلاء، قال الخطابي (7): “وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم، قال الشاعر يمدح رجلا: ويحذي نعال السبت ليس بتوأم (8).
وقال أبو عبيد (9): وانما ذكرت السبتية لأن أكثرهم في الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة، الا أهل السعة منهم والشرف.
وهناك رأيٌ آخر في الجمع هو لابن حزم (1)، اذ أنه رأى أن النهي عن المشي بين القبور مختص بالنعال السبتية، لأنها سبتية دون أن يعلل جريا منه على حمل المراد على ظاهر اللفظ، فقال بعد رواية حديث “ان العبد اذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم” فهذا اخبار منه - عليه السلام - بما يكون بعده، وأن الناس من المسلمين سيلبسون النعال في مدامن الموتى الى يوم القيامة على عموم انذاره - عليه السلام - بذلك، ولم ينه عنه، والأخبار لا تنسخ أصلا، فصح اباحة لباس النعال في المقابر، ووجب استثناء السبتية منها، لنصه - عليه السلام - عليها. والى هذا الراي الأخير مال القاضي أبو يعلى حيث قال (2): “ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها الى غيرها، لأن الحكم تعبدي غير معلل، فلا يتعدى مورد النص.
أما الذين ذهبوا الى الترجيح فقد تمسكوا بظاهر النهي، وحملوا المراد بالنعال على العموم ولم يخصوها بالسبتية، فقد نقل ابن القيم (3) أن الامام أحمد قال عن اسناد هذا الحديث الذي فيه النهي: انه جيد، وأنه يذهب اليه الا من علة.
وقال ابن القيم عن تعارض الحديثين (4): “وأما معارضته بقوله - صلى الله عليه وسلم - “انه يسمع قرع نعالهم” فمعارضة فاسدة فان هذا اخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالواقع، وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الاذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، اذ الاخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه ولا حكمه، فكيف يعارض النهي الصريح به”.
والى قريب منها ذهب ابن حجر (5) - رحمه الله - فقال بعد حكايته الحديث: واستدل به على جواز المشي بين القبور ولادلة فيه. ... وقال أيضا: وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنَّه متعقَّب بأنَّ ابن عمر كان يلبس النِّعال السِّبْتيَّة ويقول: إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان يلبسها، وهو حديثٌ صحيحٌ (1).
قلت: ولا يمنع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس هذه النعال في حياته المعتادة أن ينهى عنها عند دخول المقابر، لأنه لا يتلاءم مع ما يجب أن يكون عليه المؤمن من خشوع وخضوع وتواضع، لذا أراني أميل الى رأي الخطابي مع هذه الملاحظة التي ربما فاتت البعض من العلماء وبنه عليها النووي (7). وبهذا يزول التعارض دون الحاجة الى أهمال أحد الحديثين.
¥