تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إنَّ البحث في هذا الأمر عويصٌ ومعقّدٌ، نظراً للاختلاف الواسع في نظر العلماء على تعدُّد مشاربهم، للعقائد وقواعدها، وما يجب أن يكون أصلاً وما يتفرَّع منه، بل ما هو منها محكمٌ ينبغي اتِّباعه مع ما هو متشابه يجب ردّه إلىلمحكم. ولا يستطيع المرء إلا أن ينزع دوماً نحو رأيه واعتقاده، سيّما وأنَّ المتعلِّق بهذه النُّقطة هو اعتقاده وما يجب عليه في حقِّ الله -جل وعلا-وما لا يجب، وهذا بحدِّ ذاته غير شائنٍ لأهله، إلا إنَّ الخطأ والخطل يكمنان عندما يجعل المرء نفسه مقياساً للصَّواب والخطأ، منه ينبع الصَّواب، ومن غيره دوماً التَّجديف والخطأ، فكلُّ ما وافق رأيه من نصوصٍ هو أيضاً صوابٌ، وما خالفه فمِن ضمن المشكلات المتعارضات، ويُطلق على هذا اللون الذي خالف وجهة نظرٍ ما ـ زوراً وبهتاناً - التَّعارض مع قواعد العقائد!! ولو تواضع أحدهم قليلا لقال: إنَّ هذا متعارضٌ مع العقائد فيما يبدو لي وهو صوابٌ قد يحتمل الخطأ، ولهذا (1) " لا يصح القول بأنَّ هذا الحديث أو ذلك مخالفٌ للعقيدة هكذا باطلاقٍ! فأحاديث الصِّفات - مثلاً - تشتشكل أولاً على ضوء ما يتبنَّاه الباحث، وهكذا أحاديث القَدَر وغيرها من مسائل الأصول المختلف فيها.

فلابدَّ - إذن - من إضافة قيدٍ على توهُّم الإشكال في أيِّ مجالٍ من مجالات هذا النَّوع فنقول: هذا الحديث يوهم التَّشبيه بالنَّظر إلى الباحث، أو فيما يتعلَّق بعقيدة الباحث المُتبناة ... وهكذا".

أمَّا عن سيري في هذا المبحث فسوف يكون بإيراد عناوين أشبه بقواعد، أو بمسائل من الأُمهات في هذا المجال، ثم أشرع في إيراد الأمثلة على ما قصدت، وقد جعلت ذلك كلَّه في مطالب هذا بيانها.

المطلب الأول: التنزيه:

تكاد تتَّفِق الفِرق جميعاً - سوى المخذولين منهم الذين انسلخوا عن الإسلام - على تنزيه الله - سبحانه وتعالى - عن المُشاكلة والمُشابهة لأيٍّ من المخلوقات.

فالمعتزلة، والجهميَّة، والخوارج، والأشاعرة، وأصحاب الحديث ... إلخ، كلُّهم يُقرُّون نظرياً بوجوب تنزيه الله - تعالى -، وهذه نقولٌ توضِّح ما قدَّمت له (2).

قال القاضي عبد الجبار (1): "لا خلاف بين الأمَّة أنَّ ما في سورة الصَّمد حقيقةٌ، وكذلك ما في آية الكرسي، وأن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) حقيقةٌ في التَّوحيد.

وقال أبو القاسم الكَعْبي (3): "المعتزلة مجمعةٌ على أنَّ الله جلَّ ذكره شيءٌ لا كالأشياء، وأنَّه ليس بجسمٍ ولا عرَضٍ، بل هو الخالق للجسم والعَرَض، وأنَّ شيئاً من الحواس، لا يُدركه في دنيا ولا آخرة، وأنَّه لا تحصره الأماكن، ولا تحدُّه الأقطار، بل هو الذي لم يزل ولا مكان، ولا زمان، ولا نهاية ولا حدٍّ، ثمَّ خلق ذلك أجمع وأحدثه مع سائر ما خَلَق، لا من شيءٍ، وأنَّه القديم وكلُّ ما سواه محدثٌ، وهذا هو التَّوحيد".

وقالت الجَهْميَّة (4): لا يجوز أن يُوصَف الباري - تعالى - بصفةٍ يُوصف بها خلقه لأنَّ ذلك يقضي تشبيهاً.

وذكر الغزالي التَّنزيه كأوَّل قاعدةٍ من قواعد العقائد فقال (5): ((التَّنزيه: وأنَّه ليس بجسمٍ مُصوَّر، ولا جوهر محدود مقدر، وأنَّه لا يماثل الأجسام لا في التَّقدير، ولا في قبول الانقسام، وأنَّه ليس بجوهرٍ ولا تحلُّه الجواهر، ولا بِعَرَضٍ ولا تحلُّه الأعراض، بل لا يماثِلُ موجوداً، ولا يماثِلُه موجودٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولا هو مثل شيءٍ)).

وقرَّر الّلقَّاني (6) في منظومته أن:

وكلُّ نَصٍّ أوهم التُّشْبِيها أوِّله أو فَوِّض ورُمْ تَنْزِيها.

وقال شارحاً عقب ذلك (7): ((أي اقصد واعتقد مع تفويض علم ذلك المعنى (تنزيهاً) له - تعالى - عما لا يليق به، فالسَّلف ينزِّهونه - سبحانه - عمَّا يوهمه ذلك الظاهر من المعنى المحال، يُفوِّضُون علم حقيقته على التَّفصيل إليه تعالى، مع اعتقاد أنَّ هذه النُّصوص من عنده سبحانه، فظهر ممّا قرَّرنا اتِّفاق السَّلف والخَلف على تنزيهه - تعالى - عن المعنى المحال .. )).

وإلى هذا ذهب الباجُوري (1) كذلك فقال عند شرحه جملة (ورُمْ تَنْزِيها) (2): ((اقصد تنزيهاً له تعالى عمّا لا يليق به)).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير