فهذه الآية ردٌّعلىكلِّ جبريٍّ،بأن يُخرج لنا ما علم عن أفعاله ومصيره، وليس بفاعلٍ. ويقال للقدريِّ أيضاً إن كنت خالقاً لفعل نفسك دون تقديرٍ من الله فأخبرني ماذا ستفعل بعد حين من الأفعال المخلوقه لك، غير المقدَّرة أو المعلومة لله، فلن يفعل.
أمَّا ما تمسَّكُوا به من أنَّ موسى كان قدريا، وأنَّ آدم كان جبريَّاً عندما احتج بالقدر فهو داحضٌ، وقد أعجبني كثيرا جواب ابن تيميَّة على ذلك حين قال: (3) " لم يكن آدم - عليه السَّلام - محتجَّاً على فعل ما كُفي عنه بالقدر، ولا كان موسى ممن يحتجُّ عليه بذلك فيقبله، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا، فكيف آدم وموسى؟.
وآدم قد تاب ممَّا فعل واجتباه ربه وهداه، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبٍّي على فعلٍ تاب منه، فكيف بنبيٍّ من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنَّه لو كان القدر حجَّة لم يحتج إلى التَّوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنَّة وغير ذلك، ولو كان القدر حجَّةً لكان لإبليس وغيره، وكذلك موسى يعلم أنَّه لو كان القدر حجَّة لم يعاقب فرعون بالغرق .... وإنَّما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشَّجرة، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنَّة؟ والّلوم لأجل المصيبة التي لحقت (الإنسان نوع) (4) ".
إذاً لم يكن موسى قدريَّاً لأنَّه لم يعاتبه لأجل الذَّنب، بل لأجل المصيبة، ولو كان آدم جبريَّاً لما تاب (5).
ثانياً: التَّعارض مع أحاديث تفيد تغيُّر القدر والمكتوب.
إذا سلَّمنا بأنَّ عمل المرء وأجله ورزقه وكلَّ ما يتعلَّق به مقدرٌ ومكتوبٌ، حسب رواية
مُسلمٍ الآنفة الذِّكر:"كَتَبَ الله مَقَادِيْرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ ". وأنَّ هذه الكتابة قطعيَّةٌ، لأنَّها صادرةٌ عن العلم الإلهيِّ الأزليِّ المحيط 0 ويوضِّح ذلك ويجليه رواية حُذيفة بن أسيد التي أخرجها مُسلمٌ (1) أنَّ النَّبيَّ-صلّى الله عليه وسلّم-قال:" يَدْخُلُ المَلَكُ عَلى النُّطْفَة بَعْدَمَا تَسْتَقِرَّ في الرَّحْمِ بِأرْبَعِينَ، أو خمْسَةٍ وأرْبَعِينَ لَيْلَةٍ، فَيَقُولُ: يَا رَبّ! أشَقِيٌّ أم سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبان، فَيَقُولُ: أي رَبّ! أذَكَرٌ أم أنْثَى؟ فَيَكْتُبَان، وَيَكْتُب عَمَلَهُ وَأثَرَهُ وَأجَلَهُ وَرِزْقَهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلا يُزَادُ فِيْهَا وَلا يُنْقَصُ ".
أذاً فالرِّزق، والأجل، والعمل كلُّ ذلك مكتوبٌ مقدَّرٌ لا يُزاد فيه ولا يُنقص، إلاّ أنَّ أحاديث وردت تفيد نقصان الأجل والزِّيادة فيه، أو تغيُّر القدر والمكتوب، مما يوهم تعارضاً وتناقضاً. ومثال ذلك ما مرَّ معنا من أحاديث زيادة العمر بالبِرِّ وصلة الرَّحم. وقد تكلَّمت عنه في الفصل الأول من الباب الثَّاني بما لا مزيد عليه، فلا أعيد.
ومن الأمثلة كذلك ما رواه التِّرمِذيُّ (2) عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلاّ الدُّعاءَ، وَلا يَزِيْدُ في العُمْرِ إلاّ البرَّ ".
ولفهم هذا الحديث يجب معرفة علاقة الدُّعاء بالقدر، وقبل ذلك علاقة الأعمال بالقدر، لأنَّ الدُّعاء عملٌ.
قال ابن القيِّم (3): " فإنَّ العبد ينال ما قُدِّر له بالسَّبب الّذي أُقدر عليه، ومُكِّن منه، وهٌيِّىء له، فإذا أتى بالسَّبب أوصله إلى القدر الّذي سبق له في أُمِّ الكتاب، وكلما ازداد اجتهاداً في تحصيل السَّبب، كان حصول المقدور أدنى إليه، وهذا كما إذا قُدِّر له أن يكون من أعلم أهل زمانه، فإنَّه لا ينال ذلك إلاّ بالاجتهاد والحرص على التَّعلُّم وأسبابه، وإذا قُدِّر له أن يُرزق الولد، لم ينل ذلك إلاّ بالنِّكاح أو التَّسرِّي والوطء " ....
¥