وذهبت الزَّيديَّة إلى مثل ما ذهبت إليه المعتزلة من شأن صاحب الكبيرة، فقال علي شرف الدين من الزَّيديَّة (3): " وأمَّا الزَّيديَّة وسائر العَدْليَّة فقالوا من مات مؤمناً فهو من أصحاب الجنَّة خالداً فيها أبداً، ومن مات كافراً أو عاصياً لم يتب فهو من أصحاب السَّعير خالداً فيها أبداً ".
وبمقابل هؤلاء كان هناك المُرجئة الّذين يكتفون بمجرَّد التَّصديق لحصول الإيمان، ويرون أنَّه " لا تضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة ". وبالتَّالي فإنَّ مرتكب الكبيرة يبقى على أصل إيمانه في الدُّنيا ويُرجىء الحكم النِّهائي بشأنه في الآخرة.
وبين هؤلاء وهؤلاء كان أهل السُّنَّة كتوسطٍ بين نقيضين، حيث حكموا بأنَّ مرتكب الكبيرة يتناوله اسم الإيمان، إذ إنَّ " اسم الإيمان لا يزول بذنبٍ دون الكفر، ومن كان ذنبه دون الكفر فهو مؤمنٌ وإن فسق بمعصيةٍ " (4).
ولهذا فهم " لا يشهدون على أحدٍ من أهل الكبائر بالنَّار، ولا يحكمون بالجنَّة لأحدٍ من الموحِّدين، حتَّى يكون الله - سبحانه- يُنزلهم حيث يشاء، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذَّبهم وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأنَّ الله سبحانه يخرج قوماً من الموحِّدين من النَّار على ما جاءت به الرِّوايات عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - (1).
بعد هذه الإطالة في بيان مذاهب الفِرق بشأن مرتكب الكبيرة، أُشير إلى أنَّه قد جاءت بعض الأحاديث يؤيِّد ظاهرها ما ذهبت إليه المرجئة، وأحاديث يؤيِّد ظاهرها ما ذهبت إليه الخوارج والمعتزلة وهو ما يتعارض مع نظرة أهل السُّنَّة، ثمَّ إنَّ هذه الاحاديث تتعارض فيما بينها وهذا بيانها:
أوّلاً: أحاديث تدلُّ على أنَّ الكبيرة لا تؤثِّر في الإيمان،وهو ما يُوهم تأييد مذهب المُرجئة، مثاله ما رواه البُخاريُّ (2) ومُسلمٌ (3) عن أبي ذرٍ - رضي الله عنه - قال: أتيت النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلَّم - وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائمٌ، ثمَّ أتيته وقد استيقظ فقال: " مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إله إلاّ اللهُ ثُمَّ مَاتَ عَلىذَلِك إلاّ دخل الجنَّة "، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ " قَالَ: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ ". قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:" وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:" وَإنْ زَنَى وَإن سَرَقَ رَغْمَ أنْفِ أبي ذَرٍ ".
وهذا الحديث قد يُفهم منه أنَّ مجرَّد قول لا إله إلاّ الله مُوجبٌ لدخول الإنسان الجنَّة مع ما ارتكب من خطايا وآثامٍ،ولهذا ترجم ابن حِبَّان عندما روى معنى الحديث بقوله (4):"ذِكر خبرٍ ثانٍ أوهم من لم يُحكم صناعة الحديث أنَّ الإيمان بكامله هو الإقرار بالِّلسان دون أن يُقرنه الاعمال بالأعضاء ".
وهذا الفهم للحديث مع أحاديث أُخرى تدلُّ على أنَّ من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنَّة وقد حصل وذهبت إليه بعض الفرق محتجَّةً لمذهبها به وبأمثاله وهم المرجئة كما بيَّنت، ولكنَّ هذه النُّصوص لا تُفهم مُنعزلةً عن غيرها، وعدم استقصاء بقية الطُّرق والأطراف للأحاديث التي تدور حول هذا المعنى هي السَّبب في الفهم الخطأ للأحاديث، ولقد وُفِّق الدكتور يوسف القَرضاوي للاهتداء إلى هذه المسألة حيث جعلها من أساسيات فهم السُّنَّة المُشرَّفة فقال (1):" ومن الّلازم لفهم السُّنَّة فهماً صحيحاً أن تجمع الأحاديث الصَّحيحة في الموضوع الواحد، بحيث يُردُّ مُتشابهها إلى مُحْكمِها، ويُحمل مُطْلقُها على مُقَيَّدِها، ويُفسَّر عامُّها بخاصِّها، وبذلك يتَّضِحُ المعنى المراد فيها، ولا يُضرب بعضها ببعضٍ ".
ولا شكَّ عند الجميع أن كلمة:" لا إله إلاّ الله محمدٌ رسول الله " هي الكلمة التي يُفارق بها المرء الكفر، ويدخل الإسلام أو الإيمان، فعن سِوار بن شَبِيبٍ قال (2): جاء رجلٌ إلى ابن عمر فقال: إنَّ ها هنا قوماً يشهدون عليَّ بالكفر، قال: فقال: ألا تقول لا إله إلاّ الله فتكذِّبهم؟. ولكن الخلاف على الاقتصار على هذه الكلمة هل يُوجب جنَّةً، ويحمي من النَّار أم لا؟ وهل الإتيان بأعمالٍ تُناقضها يمحوها ويُبطلها أم يبقيها؟
¥