وقد فسَّر ابن حَزْمٍ كيف يكون هذا الحديث خاصَّاً بحادثة عينٍ فقال (3): "وهذه اللَّفظَة - يعني لم تبلغ الحِنْث - ليست بلا شكٍّ من كلام رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - ولكنَّها من كلام سلَمة ابن يزيدٍ الجُعْفيِّ وأخيه، فلمَّا أخبر - عليه السَّلام - بأنَّ تلك الموؤدة في النَّار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما: إنَّها لم تبلغ الحِنْث وتصحيحاً، لأنَّها قد كانت بلغت
انظر ترجمته: ابن حجر - إنباء الغُمر: 7/ 372 ترجمه عرضا بسطرين ضمن ترجمة أخيه، والسَّخاوي - الضوء اللامع: 6/ 272، والشَّوكاني - البدر الطالع: 2/ 81، والزركلي في الأعلام:5/ 300 - 301 وإبراهيم الوزير في مقدمة العواصم والقواصم: 1/ 101 - 119.
(4) العواصم والقواصم:7/ 250، تحقيق: الشيخ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط الأولى 1408هـ/1988م.
(5) طريق الهجرتين وباب السعادتين: 390 دار الكتب العلمية - بيروت، ط الأولى 1402هـ/1982م.
(1) فتاوي السبكي: 2/ 364، مكتبة القدسي ـ القاهرة.
(2) التمهيد: 18/ 119.
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 129.
الحِنْث بخلاف ظنِّهما ... وهذا القول حكاه ابن الوزير (4) - على فَرَضِ صِحَّة الحديث - لأنَّه قد مرَّ معنا قبل قليل أنَّه يُضَعِّف الحديث.
وهذا أولى ما حُمِل الحديث عليه عند من ارتَضَوهُ سنداً، ولقد أشْكَلَ على البعض هذا التَّوجِيهِ بِحمْلِ الحديث على الخُصُوصِيَّة، ولكن عند البحث والتَّنْقِيب لا نرى إشكالاً في الأمر، بل إِنَّ الجُنُوح لهذا التَّفسير أولى من بعض التَّفسيرات البعيدة والمُتكلَّفة.
وبيان ذلك بمعرفة ماذا كان يُقصد بالوأد عند العرب، وكيف كانوا يَئِدون.
وعند التَّساؤل الأولي: ما هو الوأد؟ قد تكون الأجابة حاضرةً: هو دفن البنت في حالة الحياة خوف الفقر أو العار. ولكنَّ هذه الإجابة غير كافيةٍ، ولابُدَّ من الرُّجوع للمصادر لمعرفة مرادهم بذلك، ومن الَّذِي كان يقوم بالوأد، ومن كان يستعمله منهم؟
يقول د. جوادعلي (1): "الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطِبةً، فكان يستعمله واحدٌ ويتركه عشرةٌ، فجاء الإسلام وقد قلَّ ذلك منها إلاَّ من بني تميمٍ، فإنَّهم تزايد فيهم ذلك قُبيل الإسلام، وقبيلة كِنْدة، وقيس، وأسد، وهُذَيل، وبكرُوائلٍ من القبائل الَّتي عُرف فيها الوأد".
وقد كان العرب في الجاهلية يَئِدون أولادهم بطريقتين (2): إمَّا أن تأتي المرأة إلى حُفرةٍ وتَلِدَ عندها فإن كان ولداً أمسكوه، وإن كانت بنتاً رمَوْها في الحفرة وأهالوا عليها التُّراب، وإمَّا أن يتركوها تكبر حتَّى تبلع ستَّ سنواتٍ، فيأخذها أبوها ويئدها، وفي الغالب كان الأب يقوم بهذا العمل.
فالوأد عمليةٌ مشتركةٌ قد يقوم بها الأب، أو الأمُّ، ولكلٍ منهما طريقةٌ، ونصيب الأب فيها أكثر، فلو كان الحديث عامَّاً لكان نصُّه: الوائد والموؤدة في النَّار، ولكن لمَّا لم يكن كذلك، والوائدة هنا لم تكن قد وأدت ابنتها بالطَّريقة المعهودة - أي عند الولادة - فصبرت عليها حتَّى كبرت - وهو المفهوم من كلام السَّائِلين - لم تبلع الحِنْث - ووأدتها بنفسها بطريقة لم تُعهد للنِّساء، كانت دعوى الخُصوصِيَّة وجِيهةً، ولا غرابة فيها.
(4) العواصم والقواصم: 74/ 250.
(1) تاريخ العرب قبل الإسلام:5/ 299، مطبعة المجمع العلمي العراقي بغداد 1374هـ/1955م.
(2) انظر: المصدر السابق، وانظر: الخازن - لباب التأويل في معاني التنزيل:7/ 178 المكتبة التجارية الكبرى - مصر 1381هـ.
وهناك وجهٌ آخر لتأويل الحديث ذكره القارى وغيره، وهو مُستبعدٌ، بل مُستَغْربٌ، فقال (3): "وقد تُؤوَّل الوائدة بالقابلة لرضاها به، والمؤودة، بالمؤودةِ لها، وهي أمُّ الطِّفل فحُذِفت الصِّلة، إذ كان من دَيْدَنِهم أنَّ المرأة إذا أخذها الطَّلْقُ حفروا لها حفرةً عميقةً فجلست المرأة عليها، والقابلة وراءها ترقب الولد.
فإن ولدت ذكراً أمسكته، وإن ولدت أنثى ألقتها في الحُفرة، وأهالت التُّراب عليها. وهو بعيد كما قدَّمت، ولكنَّ البعض قَدَّمه على قول من جعله بسببٍ خاصٍّ (4).
وعلى هذا فإزالة الإشكال في هذا الحديث تحتمل وجهين:
أولاً: أن نحكم على الحديث بالضَّعف، كما فعل بعض العلماء، ولا نتشاغل بالتماس أوجه التَّوفيق والجمع.
¥