وكل هذا يحتم علينا أن نترفّق بالمسلمين ما لم يبلغوا الكفر، و لا نيأس من رَوْح الله مع مراعاة الأخذ بالرخص والعزائم على حسب أحوال الناس.
[7] أنّ الإنسان لا بدّ أن تلحقه الفتن، ولو اعتزل الناس في صومعة: وأن الإساءة تبلغه ولو كان خير الناس، فجريج (كان في صومعته فتعرّضت له امرأة فكلّمته) وفي كتاب المظالم (قالت امرأة: لأفتننّ جريجاً) وهذا يفيد أن الشرّ إذا استشرى فإنه يلحق أهل الصوامع لانحسار الحق وانتشار الباطل (يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثُر الخبث) [11] وفي النص من الفائدة أن أهل الحق لا بدّ أن يصلحوا الناس ويعملوا على محاربة الباطل حتى لا تكسر صوامعهم بعد أن تُدك الحصون الأخرى كلها.
[8] أن اجتناب الكبائر مظِنّة لجبر ما يقع فيه المرء من اللمم: كما قال تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ونُدْخلكم مدخلاً كريماً) وقال (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم) فجريج لمّا اتقى الله (وتعرضت له امرأة فكلمته فأبى) (ولم يلتفت إليها) وقاه الله سيئات ما مكروا (ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله) وهذا يذكرنا بحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاّ ظله منهم (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) [12] وقد جاء أنّ هذه المومس راعية الغنم التي تأوي إلى صومعته) إنما هي بنت الملك تتنكر لإغوائه فالتعفف مظنة الرحمة والظل الظليل في حرّ الهواجر وكرب النوازل كما يبيّنه أيضاً حديث الثلاثة الذين حبستهم الصخرة.
[9] أنّ الانحراف وراء الشهوات يؤدي بالمرء إلى الانحراف والوقوع في هفوات عدّة, وانظر إلى المومس كيف جرّها كلامها جُريجاً إلى الزنا بغيره ثم إلى الكذب في القول واتهام الأبرياء وظلم الأولياء فكان عاقبتها الفضيحة والخسارة التامة. ولم يزل أهل العلم يقولون: إن الذنوب على القلب تتنادى والنكت على القلب تتوالى حتى يكون المصير وبالاً والعياذ بالله تعالى.
[10] أنّ من لم يوُطِّن نفسه على التّوقُّف والتّثبُّت وتمحيص الأخبار قد يؤسّس قواعد على شفا جُرُف هارٍ, فيظلم نفسه وغيره إذ يصيب قوماً بجهالة ولا يبلغ إلاّ الندامة. فهؤلاء القوم سارعوا إلى تصديق المومس, وما نظروا إلى عبادة الرجل وهي قرينة يتوقف عندها العقلاء, وتكون مدعاة للتبين والتثبت ولهذا قال تعالى (فتبينوا) وفي قراءة حمزة والكسائي (فتثبتوا). ولكن انظر إلى هؤلاء كيف صنعوا بهذا الرجل الصالح (أتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوُّه) ثم لما حصحص الحق ندموا على تسّرعهم.
[11] أنّ الجاهل يلحقه الطيش ولا يسلم غالباً من الفساد ولهذا قال لوط عليه السلام: (أليس منكم رجل رشيد) وقال تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) فهؤلاء من قوم جريج لجهلهم وسفاهتهم ما قنعوا بإنزال جريج وسبّه حتى كسروا الصومعة. وكذلك فعل سفهاء الطائف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفوا بالإصرار على الكفر وردِّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ضربوا النبي صلى الله عليه وسلم وآذوه (ولا يفلح قوم أدموا وجه نبيهم).
[12] أنّ شأن الظالمين الجاهلين تحيّن الذرائع وانتظار خطأِ الدعاة إلى الله ليهبّوا إلى هدّ الصوامع وهدم الجوامع (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات يذكر اسم الله فيها كثيرا) وليت شعري إنّ هذا الخُلق السيئ لم يزل شائعاً في واقع المسلمين الذين لبّس عليهم شياطين الإنس والجن فابتكروا (خطط تجفيف منابع التديُّن) وصاروا أشدّ من اليهود حرباً على المساجد وأيّ هدم للصوامع أكبر من منع مدارسة الكتاب والسنة فيهما (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
[13] أنّ العقول الخبيثة تحنّ إلى إشاعة الفواحش وإثارة التهم بين المطّهرين كالجمل الأجرب لا يهدأ باله حتى يُعدي الأصحاء. كما قال ربنا (يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) وقال سبحانه (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) وقال تعالى (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) فهاهنا لم يتهم جريجاً بالفساد إلاّ المومس وهي أخس القوم.
¥