سينصبُّ الحديث في هذا المطلب على مُسلَّمات العلوم وتعارضها مع الحديث والمُسلَّمات: هي الحقائق الّتي وصلت إلى درجة القطع، ولهذا لم أتشاغل بذكر تعارض الحديث أو النَّص مع فَرَضِيَّاتٍ علميَّةٍ، أو نظريَّاتٍ لم تثبت صحتها، لأنَّها في مرحلة الأخذ والرَّد فقد تثبت وتصبح حقيقةً، وقد لا تثبت وتتساقط، مما لا يؤهِّلها لمعارضة الرَّأي فضلاً عن السُّنن والنُّصوص.
ومثال ذلك الحديث الصَّحيح الذي أخرجه البُخاريُّ (1) عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيُّ- صلّى الله عليه وسلّم- له حين غربت الشَّمسُ:"تَدْرِي أيْنَ تَذْهَبُ "؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" فَإنَّهَا تَذْهَبُ حَتّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ فَتَسْتَأذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أنْ تَسْجُدَ فَلا يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأذِنَ فَلا يُؤْذَنُ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَاَلى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيُر العَزِيز العَلَيْم} (2).
فالحديث يعارض ما ثبت عليه العلم الحديث من أنَّ الشَّمس إنْ غربت في جهةٍ تطلع في جهةٍ أُخرى، وما اختفاؤها عنَّا إلاٌ ظهورٌ لها على غيرنا، فكيف نفهم الحديث إذاً؟.
لقد تكلَّمت على الحديث بتوسُّعٍ في الباب الثَّالث في الفصل الأوّل منه، ولكن يكفيني أن أُشير هنا إلى أنَّ الحديث لا يُؤخذ على ظاهره من اختفاءٍ للشَّمس على الكُرة الأرضيَّه وذهابها للسُّجود تحت العرش، وإنَّما يمكن فهم السُّجود بأنَّه الخُضُوع والانقياد المطلق لله- سبحانه وتعالى-، ولهذا فإنَّ الحديث يتكلَّم على ظاهرةٍ ستحدث وهي عدم ظهور الشَّمس كعادتها من المَشْرِق، وانقلاب حالها والظَّهور من جهة المغرب في يوم ما من الزَّمان، وقد جاء وصف هذا اليوم في أحاديث وآثارٍ كثيرةٍ.
ووصف السُّجود، والاستئذان، وعدم الإذن، تقريبٌ لما هو عليه حال الكواكب كلّها من خُضوعٍ لبارئها، وانصياعها لقانون أودعه الله فيها لا يتخلَّف إلّا متى شاء الله سبحانه.
(1) الصحيح، بدء الخلق /4 صفة الشمس والقمر:4/ 75 وغير ذلك،كما أخرجه مُسلمٌ،الإيمان /72 بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان:1/ 138 - 139 رقم (159) وغيرهما كما بينت ذلك في الباب الثالث.
(2) سورة يس: 38.
ومن أمثلة هذا النَّوع ما رواه الشَّيخان (3) عن سعد بن أبي وقاصٍ أن رسول الله- صلّى
الله عليه وسلّم-قال:" مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمْرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ اليَومَ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ ".
قال المَازريُّ (1): " هذا مما لا يُعقل معناه في طريقة علم الطِّبِّ، ولو صحَّ أن يخرج لمنفعة التَّمر في وجهٍ من جهه الطِّبِّ، لم يُقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الّذي هو سبْعٌ، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الّذي هو العجوة، ولعلَّ ذلك كان لأهل زمانه - صلّى الله عليه وسلّم - خاصَّةً أو لأكثرهم، إذ لم يثبت عندي استمرار وقوع الشِّفاء بذلك في زمننا غالباً، وإنْ وُجد ذلك في الأكثر حُمل على أنَّه أراد وصف غالب الحال ".
ونقل ابن حَجَرٍ (2) عن القاضي عِياض أنَّه قال: تخصيصه ذلك بعجوة العالية وما بين لابتي المدينة يرفع هذا الإشكال ويكون خُصوصاً لها.
ولم يرتضِ النَّوويُّ (3) ما ذهب إليه المَازِريُّ والقاضي عِياض، وعدَّه كلاماً باطلاً. مما جعل ابن حجرٍ يستغرب هذا الحكم من النَّوويِّ فقال (4): ولم يظهر لي من كلامهما ما يقتضي الحكم عليه بالبُطلان، بل كلام المَازِريّ يشير إلى مُحصِّل ما اقتصر عليه النَّوويُّ.
وأغلب العلماء حملوا الحديث على الخُصوِصيَّة، أي خصوصيَّة عجوة المدينه، وبعضهم وافق المَازِريَّ في أنَّ الحديث خاصٌّ بزمن نُطْقِهِ وبناءً على ذلك فقد يُخطئ من يتَّخذ هذا الحديث كوصفةٍ طِبِيَّهٍ يجعلها من المُسلَّمات الّتي لا تتخلَّف، فإن أعطاها لإنسانٍ ولم يصدُق عليه هذا الحديث كان مدخلاً للوَساوس وغيرها إلى نفسه، نعم قد يُجرِّب هذا إنسانٌ فيصحُّ له ما أراد، وما ذلك إلاّ لصفاء نِيَّتِهِ وصدق توَجُّهِهِ، إذاً فعلينا الحذر في هذا المجال، ولنحمل الحديث على الخُصوصيَّة أولى وأفضل والله أعلم.
¥