ومما ينبغي استحضاره – أيضاً – أن الحجة في قول الصحابي ليست في قوله لذاته؛ بل لأن الشارع ضمن حفظ الحق أبداً إلى أن تقوم الساعة، وأنه لا يخلي عصراً من العصور منه، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر 9]. فلو قال الصحابي قولاً ولم يكن صواباً بل الصواب في غيره ولم ينكره عليه أو يخالفه فيه أحد ممن عاصره حتى انقضى ذلك العصر، ثم جاء من بعده فقال بخلاف قوله لكان ذلك العصر قد خلا من ناطق بالحق، بل كانوا مطبقين على الباطل، فهذا هو الذي ينكر.
وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز لمن جاء بعدهم مخالفتهم أو مخالفة أحدهم إذا لم ينقل عن أحد ممن عاصره خلافه، كما لو اختلفوا – أعني الصحابة – على قولين لم يجز لمن جاء بعدهم إحداث قول ثالث خارجٍ عن القولين.
وكما قلت: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً منها ما يأتي:-
1 - ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من وجوه متعددة أنه قال:- (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) ([104]).
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً. وذلك يقتضي تقديمهم في كل بابٍ من أبواب الخير. و إلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقاً. فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم و سائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما ظفر بالصواب من بعدهم و أخطأوا هم لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن. ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة لأن من يقول قول الصحابي ليس بحجة يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر وفات هذا الصواب الصحابة. ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه. ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها.
فياسبحان الله أي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت و أضرابهم - رضي الله عنهم - قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة.-سبحانك هذا بهتان عظيم-.
2 - ما روى مسلم في صحيحه ([105]) من حديث أبي موسى الأشعري قال:- صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فجلسنا. فخرج علينا. فقال:- (ما زلتم ههنا). فقلنا:- يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال:- (أحسنتم وأصبتم) -ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء -. فقال:- (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي. فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنة لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه وكنسبة النجوم إلى السماء.
ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم.
–وأيضاً - فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم وحرزاً من الشر وأسبابه. فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنةً للصحابة وحرزاً لهم. وهذا من المحال.
3 - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - (إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح) ([106]).
قال الحسن ([107]):- قد ذهب ملحنا فكيف نصلح.
ووجه الاستدلال أنه شبه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به. فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتي بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعدهم ملحاً لهم. وهذا محال.
¥