أجتهاد إنشائيٌّ: وهذا لا يُمكنُ أن يختلف الأصوليّون او الفقهاء للّدقّة في معنى النّصّ المحكم أو النّصّ ... فدلالته واضحة واحدة لا تحتمل أي معنى آخر ولا تحتمل النّسخ ....
وأمّا فيما سوى ذلك فقد تحتلف الأذهان ... كما في اللفظ المشترك أو المؤؤل أو الخفيّ .....
فإذا بان المُرادُ مِن الآيةِ أو الحديثِ لم ينتهِ إعمال الاجتهاد إذ تبرز الحاجة إلى الاجتهاد الآخر وهو الاجتهادُ الرّقابيُّ، فالنوع الثاني من أنواع الاجتهاد إذن هو:
الاجتهاد الرّقابيّ: وهو أن يُراقب المجتهد المسألة أثناء إسقاطها إلى أرض الواقع كي لا تُفضي إلى تحقيق خلاف مقصودها ... وهذا ما يُمكن ان يتجل! ى في الأدلة الإجماليّة الفرعيّة مثل: سدّ الذّرائع وفتحها، والاستحسان ....
فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يقطع الأيدي في الغزو مع أنّ الآيةَ محكمة وعامّة .... [فاقطعوا أيديهما ... ] وذلك لما قد يترتب على هذا الحُكم أثناء التّطبيق من مفاسد، وكذا رأى عليّ بن أبي طالبٍ (رضي الله عنه) أن يؤخّر الأخذ على قتلة عثمان والقصاص منهم لأنّ الأمر يحتاج إلى مزيد بيان وإيضاح وقد يعصف بفتن تقتل الأمة لا أوّل لها ولا آخر.
وكذا نهى القُرآنُ أن يَسُبّ المسلمون آلهة المشركين إن كانت ستحملُ المشركين على سب الرّب تعالى فقال (وا تسُبوا الّذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) ....
وشواهد هذا كثيرة جدا، ولعلنّي كي أقرّب الصورة أضرب مقالا أقرب إلى أذهاننا
فبيعُ السّلاح جائز لكنه محرّمٌ في ومن الفتنة ....
وعليه أحبّتي في الله ...
لا اجتهاد في النّصّ والمحكم ... لكن هذا لا يعني أن لا يهتمّ المجتهد في مُراقبة الحكم الّذي تولّد من هذه النّصوص أن لا يفضيان إلى تحقيق خلاف مقصودهما في ظرف من الظّروف .... ألم ترّ أنّ شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيّم (رحمهما الله تعالى) أفتيا بأنّ من تاب وحسنت توبته مما استوجب حدّا - خالصًا- من حدود الله ثُمّ تاب وصدقت توبته فإنّها لم يريا بأسا في أن يقيم الإمامُ عليه الحدّ ... فإنّ مثل هذه الفتوى مردودةٌ ومقابلة للنّصّ إلا إن فهمناها فيسياق ما قُلتُ ....
فالاجتهادٌ الرّقابيُّ أيّها الأحبّة مهم جدا، بل إنّني أرى أنّ مدار الفتيا ودحاها الأعظم في هذا الزّمان دائرٌ على هذا النّوع من الاجتهاد ... حيث فيالجانب الاستنباطي استخرج العلماء السابقون كلّ ما يمكن فهمه من آيات الأحكام وأحاديثها ... وعليه فإنّ مدار الاجتهاد الاستنباطي في هذا العصر - أغليها- دائرٌ على الاجتهاد التّرجيحي ويبقى الميدان الأوسع هو فيالاجتهاد الرّقابيّ ... وهذا مما يدقّ فهمه والتّنبّه إليه ولا يتصدّر له إلا العُلماء الأفذاذ الّذين حذقوا أقوال الفقهاء وأتقنوا لغة العرب ووقفوا على مقاصد الشّريعة وحكمتها وخفاياها ....
والله الموفق، وتقبلوا مني خالص الدعاء
أحسنت ... بارك الله فيك ...
ـ[محمّد حدّاد الجزائري]ــــــــ[02 - 12 - 08, 09:47 م]ـ
ما فهمته من كتب الأصول عند رجوعي للظاهر والنص إن الأصوليين يقولون: حل البيع وتحريم الربا هنا من الظاهر والآية لم تسق لهذا الأمر، إنما سيقت لبيان التفريق بين البيع والربا عندما قال المشركون [ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا]، فقيل أن التفريق بين البيع والربا هنا هو النص، وحل البيع وحرمة الربا هي الظاهر.
وأنت ذكرت أن الربا محرم بالنص، وأنا أعلم حرمته، فكيف أجمع بين تلك الأقوال وأفهمها فهماً مبسطاً؟
وما معنى قولك: (النص هنا ليست الآية نفسها من حيث الثبوت و إنما من حيث قوة دلالتها بعد ثبوتها)؟
أما نقلك عن بعض كتب الاصول من كون الآية نصا في التفريق بين البيع و الربا و أنها ظاهرة الدلالة على حلّ البيع و حرمة الربا و ليست حراما! فلا أدري من اين جئت بهذا يا أخي و لم أفهم وجهه ... ، بل الذي أفهمه من هذا التفريق أن الآية إذا كانت نصا في التفريق بين الحكمين فهي نص على إفادة الحكمين من باب أولى؛ كيف ذلك؟
أولا: الآية تتكون من جملتين مفيدتين (أحلّ الله البيع) و (حرّم الربا -حرّم الله الربا-)، و لو أخذنا كلّ جملة منهما مستقلة على حدى لأفادت التنصيص على كل حكم؛ فما هو الاحتمال المرجوح سوى الحلّ في قوله تعالى: (أحلّ اللّه البيع)؟! و ما هو الاحتمال المرجوح سوى التحريم في قوله تعالى: (حرّم الربا)؟! إذا كان كل من الحكمين ظاهر كما تفضلت بنقله، ذلك أن الظاهر كما قدمتُ بذكر تعريفه هو: "اللفظ الذي يحتمل معنيين أو أكثر أحدهما راجح و الآخر مرجوح"، (و المعنى الراجح في التعريف هو الظاهر).
ثانيا: إذا كانت الآية نصا في التفريق بين البيع و الربا؛ فهذا لا يزيد الحكمين المستقلين إلا تأكيدا لما استفدناه بعد التفريق بين الجملتين؛ بكل بساطة لأن الأشياء باضدادها تتميز و تتبين أكثر ...
فالرجاء أخي الحبيب أبا الشيماء أن تتحفنا بمرجع الكلام الذي نقلتَه.
ـــ ثم سألتني عن معنى قولي: (النص هنا ليست الآية نفسها من حيث الثبوت و إنما من حيث قوة دلالتها بعد ثبوتها)؟
فالجواب أنني أردت بهذا التأكيد على أن موضوع قاعدتك التي هي محل النقاش هو النص من حيث دلالته و ليس من حيث ثبوته، و قد قلتُ أن دراسة ثبوت النصوص إنما محلها مصطلح الحديث، أما اصول الفقه فموضوعه دراسة دلالة النصوص ... ، و أردت من قولي: (دلالتها بعد ثبوتها) التأكيد على أن دراسة الدلالة لا تكون إلا بعد ثبوت النص، إذ يستحيل أن يكون النص دليلا و هو لم يثبت أصلا، فالمُفترض أن تأتي دراسة دلالة النص بعد ثبوته أولا و ابتداء.
تنبيه: ليس معنى كل هذا الكلام؛ أنه حيثما ورد لفظ (النص) فهمنا من ذلك أنه اللفظ القطعي الدلالة؛ فإن إطلاق النصوص في أكثر الأحوال إنما يراد به مطلق أدلة الكتاب و السنة دون النظر إلى قوة دلالتها و إفادتها للأحكام، و إنما يُقصد بالنص ما أردناه في هذا النقاش في محله و سياقه، و مثاله أنك تتحدث في مسألة و تذكر الأقوال المختلفة فيها و تأتي بأدلة كل قول، ثم تأتي بدليل صريح واضح قطعي الدلالة و تقول: "هذا نص في محل النزاع"، فهنا نفهم من كلامك أنك تريد من قولك: "نص" معناه الخاص (أي: اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحد".
¥