و أما النسخ بالأغلظ، فمثاله ما ورد من التحريم بعد الإباحة، كتحريم لحوم الحمر الأهلية بعد إباحتها، و هذا ما تكرر فيه النسخ، فإن النسخ قد تكرر في أربعة مسائل:
1 – القبلة، فقد كاان النبي صلى الله عليه و سلم بمكة يصلي إلى البيت الحرام، ثم لما هاجر صلى إلى بيت المقدس سبعةَ عشر شهرا، ثم نُسخت القبلة و أعيدت إلى البيت الحرام.
2 – متعة النكاح، فقد حٌرمت بإعلان النبي صلى الله عليه و سلم بالنهي عنها، ثم أذن فيها في بعض الغزوات، ثم حرمها و بقيت على التحريم.
3 – الحمر الأهلية، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم أكلها، ثم في إحدى الغزوات أذن بأكلها لجوع الناس، ثم بعد ذلك حرمها فاستمرت على التحريم.
4 – الوضوء مما مست النار، فإنه صلى الله عليه و سلم كان يتوضأ مما مست النار، ثم ترك الوضوء من ذلك، و كان آخر الأمرين منه: ترك الوضوء ما مست النار.
هذه المسائل الأربعة، هي التي نظمها الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله:
النسخُ ذو تكرر في أربعٍ جاءتْ بها الكتْبُ و الأخبارُ
في قِبلةٍ و متعةٍ و حمرٍ كذا الوضو مما تمس النارُ
قال: " و يجوز نسخ الكتاب بالكتاب، و نسخ السنة بالكتاب، و نسخ السنة بالسنة ".
هذا ذكرٌ لأنواع النسخ باعتبار الناسخ، فالناسخ إما: كتاب و إما سنة، و المنسوخ في كل واحد منهما إما: كتاب و إما سنة
- مذهب الشافعي: أن الكتاب لا يُنسخ بالسنة، و أن السنة لا تُنسخ بالكتاب.
- و مذهب الجمهور: حصول النسخ بينهما.
- فيجوز نسخ الكتاب بالكتاب بالاتفاق، مثل ما ذُكر من آيتي العدة، و آيتي العدد في الغزو.
- و يجوز نسخ الكتاب بالسنة – على الراجح –، مثل قول الله تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين بالمعروف "، فقد نٌسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه و سلم: " إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
- و يجوز نسخ السنة بالكتاب، مثاله: نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة، بقول الله تعالى: " فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ".
- و نسخ السنة بالسنة، مثل قوله صلى الله عليه و سلم: " كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها "، و كقوله في لحوم الأضاحي - في النهي عن ادخارها ثلاثا -: " إنما كنت نهيتكم من أجل الدافَّة "، و نحو ذلك.
قال: " و يجوز نسخ المتواتر بالمتواتر "، أي: و يجود نسخ الكتاب بمتواتر السنة.
و الواقع أن التواتر وصف طارئ، لأنه يتعلق بالنقل لا بالنزول.
و لا يُنسخ الكتاب بما لم يتواتر من السنة، عند طائفة من المتكلمين، و لكن العبرة هنا بالصحة، فإذا صح النقل و لو لم يصل إلى حد التواتر فذلك كاف في النسخ، لأن التواتر وصف طارئ بعد نزول الوحي.
قال: " و نسخ الآحاد بالآحاد و بالمتواتر ".
أي: أن الآحاد يمكن اعتبار النسخ فيها بالمتواتر قطعا، فأحاديث الآحاد تُنسخ بمتواتر القرآن و بمتواتر السنة، و تنسخ بالآحاد كذلك، لأنها في منزلتها، و الناسخ لا يكون أضعف من المنسوخ، و لكن هذا – كما ذكرنا - مستغنىً عنه، لأن التواتر و الآحاد راجعان إلى النقل، و النقل متأخر عن النزول.
قال: " و لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة ".
هذا هو مذهب الشافعي، و مذهبُ جمهور الأصوليين هو: جواز ذلك، و قد بينا مثاله، في قوله تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين بالمعروف "، فقد نٌسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه و سلم: " إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
قال: " و لا المتواتر بالآحاد " أي: لا يجوز نسخ المتواتر من السنة بالآحاد.
و هذا قولٌ لبعض أهل العلم، و قد بينا أنه إذا ثبت النقل فذلك كاف.
حكمة النسخ:
- التدرج في التشريع، فإن الشارع الحكيم يراعي مصالح عباده، فلو أنزل الأحكام بَاتَّةً على الوجه الذي تستقر عليه دون تدرج و مرور بتلك المراحل لكان ذلك أدعى لعم الاستجابة، فكان من لطفه و حكمته أن ينزل الأحكام متدرجة، و أن يحصل فيها النسخ.
¥