وتنوفةٍ مَدَّ الضمير قطعتها ... والليلُ فوق إكامها يتربَّعُ
ليلٌ يمدّ دجاه دونَ صباحه ... آمال ذي الحرص الذي لا يقنع
باتت كواكبُهُ تحوطُ بقاءَهُ ... في كلِّ أفقٍ منه نجمٌ يلمع
زُهْرٌ بَعَثْنَ على الصباح طلائعاً ... حول السماء فهن حسرى ظلَّعُ
متيقظاتٌ في المسير كأنها ... باتت تناجى بالذي يُتَوَقَّع
والصبحُ يرقبُ من دجاه غرةً ... متضائلٌ من سجفه يتطلع
متنفساً فيه جناناً واهناً ... في كلِّ لحظة ساعة يتشجع
حتى انزوى الليلُ البهيمُ لضوئه ... وقد استجاب ظلامُهُ يتقشع
وبدت كواكبُهُ حيارى فيه لا ... تدري لِوَشْكِ زيالها ما تصنع
متهادلاتُ النور في آفاقها ... مستعبراتٌ في الدجى تسترجع
وكواكبُ الجوزاء تبسطُ باعها ... لتعانقَ الظلماء وهي تودع
وكأنها في الجو نعشُ أخي بلىً ... يُبْكَى ويوقَفُ تارةً ويشيَّع
وكأنما الشعرى العَبورُ وراءها ... ثكلى لها دمعٌ غزيزٌ يهمع
وبناتُ نعشٍ قد برزن حواسراً ... قُدَّامها أخواتُهُنّ الأربع
عبرى هتكن قناعهن على الدجى ... جزعاً وآلتْ بعدُ لا تتقنع
وكأن أفقاً من تلألؤ نجمه ... عند افتقادِ الليل عينٌ تدمع
والفجرُ في صفو الهواء مورّدٌ ... مثلُ المدامةِ في الزجاج تشعشع
يا ليلُ ما لك لا تغيث كواكباً ...... زفراتُهَا وجداً عليك تَقَطَّع
لو أن لي بضياء صبحك طاقةً .... يا ليلُ كنت أردّه لا يسطع
حذراً عليك، ولو قدرتُ بحيلتي ... جَرَّعْتُهُ الغُصَصَ التي تتجرع
يا صبحُ هاك شبيبتي فافتكْ بها ... ودع الدُّجى بسواده يتمتع
افقدتني أُنسي بأنجمها التي .. أصبحتُ من فقدي لها أتوجَّع
ثم أتبع التيفاشي هذه الأبيات بنص نقدي لا يخرج عن نطاق موضوعنا، هذا نصه:" هذا الذي أبدع (ابن طباطبا) فيه، وخالف الشعراء في أُنسِهِ بالليل والكواكب، وبكائه عليهما، وتوجُّعه لفقدهما، وجميع الشعراء مَهْيَعُهُمْ شكوى الليل وطوله، والتوجع لرعي النجوم. ووصف الليل والنجوم مما انفرد ابن طباطبا بالإجادة فيه، ...... وابن المعتز في التشبيه، والصنوبري في صفات الربيع، والبحتري في طيف الخيال، وأبي تمام في البديع والرثاء، وابن حازم في القناعة، وأبي العتاهية في الزهد، وابن الرومي في الهجو، ومحمود الوراق في الحِكَم، والمتنبي في المدح والأمثال، والحمدوي في طيلسان ابن حرب، والمعري في الدّرع، وعمر بن أبي ربيعة في النسيب، وكشاجم في الأوصاف النادرة، ومحمد بن هانئ في وصف الحرب وأدواتها، والسريّ الموصليّ في وصف شعره، وأبي العباس الخازن في الاعتذار والاستعطاف، .... وزهير في المدح، والشمّاخ في وصف الإعسار، وذي الرمة في وصف الفلواتِ والهواجر، وشعراء هذيل في القسيِّ والنبل، والفرزدق في الفخر. فهؤلاء الشعراء وَقَفَ كلٌّ منهم قريحته على إجادة الفن المذكور عنه، وفتح له فيه مالم يفتح لغيره ".
ومن شعراء العربية الذين غلبوا موضوع وصف النجوم أيضًا شاعر مجيد من طراز فريد، ألا وهو " ابن دفتر خوان " الذي ترجم له الصفدي مرتين في كتابه الوافي بالوفيات، مرة في 21/ 466، ومرة في 22/ 209، (دار نشر فرانز شتاينر، شتوتجارت - 1991م)، وقال في أولاهما:" علي بن محمد بن الرضا بن محمد بن حمزة بن أميركا، الشريف أبو الحسن الحسيني الموسوي الطوسي الأديب الشاعر المعروف بابن دفتر خوان. ولد في رابع صفر سنة 589هـ بحماة وبها توفي سنة خمس وخمسين وست مائة، وله ست وستون سنة. له مصنفات أدبية وغير أدبية. امتدح المستنصر بالله وغيره، وملكت من تصانيفه بخطه كتاب شاهناز وهو سؤالات نظم أبيات وأجوبتها، نثر بين حكيمين طبيعي وإلهي، وكتاب الطلائع، وكتاب الحكم الموجزة في الرسائل الملغزة. وقال في آخره: هو ثان وأربعون كتابًا وضعته. وله كتاب الغلمان من نظمه في ألف غلام. وله شعر كثير مقاطيع وغيرها، وله أرجوزتان سماهما الهاديتين، إحداهما في آداب الزائر والأخرى في أدب المزور، وهو غواص على المعاني".
وبالإمكان عقد موازنة بين هؤلاء الشعراء الثلاثة للوقوف على مدى توارد الشعراء على هذا الموضوع، وكيفية تناول كل شاعر لعناصر الإبداع الفني في شعره، وأثر البعد الثقافي في هذه العناصر، وغير ذلك من الأمور التي لا تزال بحاجة إلى من يزيل عنها الغموض.
¥