ذهبت للصلاة على فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله، وحاولت أن أبكر ممنياً نفسي بموقف سهل، ولكني لم أجد بعد نحو خمس وأربعين دقيقة من البحث المضني عن موقف بأجرة أو بدونها سوى موقف يبعد عن المسجد نحو ألف متر أو يزيد. وقد وفقني الله لدخول فناء المسجد مع انتهاء الأذان تقريباً.
وجامع الإمام تركي بن عبدالله الذي أقميت فيه صلاة الظهر ثم الجنازة على الشيخ رحمه الله وفقاً لما يُذكر في تصميمه يتسع لنحو سبعة عشر ألف مصل، ومع ذلك لم أجد لقدمي موطئاً إلاّ في فنائه حيث لا ظل وكنت محظوظاً إذ ظفرت بقطعة من فراش لم تكن لتدفع عن قدمي سخونة الأرض التي لا تغيِّر فيها شيئاً قطراتُ العرق المتصببة من الجموع، أما ما يحف الفناء الشرقي على امتداد جنباته المسقوفة فقد امتلأ بالمصلين عن بكرة أبيه، بل امتلأ الدور الأرضي لمبنى هيئة الأمر بالمعروف وما تاخمها.
وبعد أن قُضِيَت الصلاة التي لم يتمالك فيها كثير من الناس دمعه بل بعضهم –خلافاً للسنة- صوته الذي ارتفع بالبكاء، انتشرت الجموع فسدت الأفق ولم يجد كثير من تلك الجموع مع الزحام بدّاً من المشي على الأقدام إلى المقبرة في حمَّارة القيظ، في مشهد مهيب قد تعجز الكلمات عن تصويره وحسبك أن تعلم أنه يذكر صاحب الفكرة بالآخرة.
ومع وصولي المبكر نسبياً إلى المقبرة لم أتمكن من قرب القبر نظراً لشدة الزحام والتدافع الذي آثرت ألا أكون طرفاً فيه، فمكثت بعيداً بين القبور أنظر إلى تلك الجموع الهادرة الذاكرة الداعية وقلت في نفسي كان الشيخ مباركاً في حياته وهو اليوم مبارك بعد موته جاء بالخير إلى أهل القبور فكم من مُسَلِّمٍ عليهم وداع لهم ما جاء به إلاّ موت الشيخ رحمه الله، وبينما أنا كذلك إذ رعى انتباهي صوت أحدهم يرتفع قائلاً لصاحبه: الله أكبر، قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز!
فجعلت أتأمل مقالته، وورَدَ عليَّ خبرُ موت بعض المغنيين الغربيين قريباً وتأبين الألوف له، وخبر موت بعض المطربين والفسقة في دول قريبة وتشييع الجموع الغفيرة لهم ... فتأملت النكتة التي ما كانت لتخفى على الأئمة، الذين قالوا: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، فوجدت تلك الحشود المرذولة إنما يشيعون أهواءهم وينعون بعض شهواتهم، ومن قال منهم يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، لم يقل لمطربه المُشَيَّع اللهم ارفع درجته في المهديين واغفر لنا وله يا رب العالمين! ولهذا تجد في تأبينهم الفسق والمجون والغناء وهذا يدلك على أن بكاءهم المرير وتأثرهم المنفعل إنما هو على شهواتهم وأهوائهم ... فحق للناظر إلى جموعهم أن يقول بملء فيه:
ما أَكثَرَ الناسَ لا بَل ما أَقَلَّهُمُ اللَهُ يَعلَمُ أَنّي لَم أَقُل فَنَدا
إِنّي لَأَفتَحُ عَيني حينَ أَفتَحُها عَلى كَثيرٍ وَلَكِن لا أَرى أَحَدا
وزيادة على هذا المعنى فإن يوم الجنائز لا يقتصر أمره على جموع المشيعين أو المعزين فذلك يوم يلقى فيه المرء عمله ...
أما في وفاة الشيخ ابن جبرين فأنت ترى المشايخ الأثبات وطلاب العلم الثقات والصالحين والمسلمين الصادقين، تراهم قد خرجوا من أجل الدعاء للشيخ خاصة ولأموات المسلمين عامة مع قصد الاعتبار وكل ذلك أداء لبعض الواجب الشرعي وعرفاناً لبعض حق الشيخ الذي ظل يرشد الأمة ويعلمها، وينير دربها ويسهم في رفع الفتن عنها نصف قرن ونيِّف من الزمان، فكانت وفاته –رحمه الله- باب خير لهم وسبيل قربة وسنة فمن أسهم فيها بخير فقد نفع نفسه بتقديمه لآخرته، كما كانت حياته دعوة إلى الهدى ودين الحق .. ومن كانت تلك حاله فيرجى له أن يلقى ربّاً رحيماً رحمن راض غير غضبان ...
انتهت الخاطرة التي جالت بالخاطر، وانتهى طلاب الشيخ ومحبيه من قبره، فوجدتني أقول: اللهم اغفر لعبدك عبدالله الجبرين، وثبته عند سؤال عبديك في القبر كما ثبته نصف قرن أو يزيد مجيباً مجيداً عن أسئلة عبيدك المؤمنين.
اللهم اغفر لعبدك عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين ...
http://www.lojainiat.com/index.php?action=showMaqal&id=8949
ـ[محمد زياد التكلة]ــــــــ[16 - 07 - 09, 05:43 م]ـ
ابنُ جبرين .. والدِّيارُ التي خلتْ!
لجينيات
¥