تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم قال: والذي جاءت به الشريعة وعليه عقلاء الناس أنهم لا يعملون إلا بعلم بأن هذا أرجح من هذا، فيعتقدون الرجحان اعتقادا عمليا، لكن لا يلزم إذا كان أرجح أن لا يكون المرجوح هو الثابت في نفس الأمر، وهذا كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع). فإذا أتى أحد الخصمين بحجة، مثل بينة تشهد له ولم يأت الآخر نشاهد معها، كان الحاكم عالما بأن حجة هذا أرجح، فما حكم إلا بعلم، لكن الآخر قد يكون له حجة لا يعلمها أو لا يحسن أن يبينها.

ثم قال: وهكذا أدلة الأحكام، فإذا تعارض خبران أحدهما مسند ثابت والآخر مرسل، كان المسند أقوى من المرسل. وهذا معلوم لأن المحدث بهذا قد علم عدله وضبطه والآخر لم يعلم عدله ولا ضبطه كشاهدين زكي أحدهما ولم يزك الآخر، فهذا المزكى أرجح وإن جاز أن يكون في نفس الأمر قول الآخر هو الحق، ولكن المجتهد عمل بعلم، وهو علمه برجحان هذا على هذا، ليس ممن لم يتبع إلا الظن، ولم يكن تبين له إلا بعد الاجتهاد التام فيمن أرسل ذلك الحديث وفي تزكية هذا الشاهد، فان المرسل قد يكون راويه عدلا كما قد يكون هذا الشاهد عدلا. ونحن ليس معنا علم بانتفاء عدالة الراوي لكن معنا عدم العلم بعدالته، وقد لا تعلم عدالته مع تقويتها ورجحانها في نفس الأمر، فمن هنا يقع الخطأ في الاجتهاد، لكن هذا لا سبيل إلى أن يكلفه العالم أن يدع ما يعلمه إلى أمر لا يعلمه لإمكان ثبوته في نفس الأمر. فإذا كان لابد من ترجيح أحد الأمرين وجب ترجيح هذا الذي علم ثبوته على ما لا يعلم ثبوته وإن لم يعلم انتفاؤه من جهته، فانهما إذا تعارضا وكانا متعارضين، فإثبات أحدهما هو نفي للآخر، فهذا الدليل المعلوم قد علم أنه يثبت هذا وينفي ذلك، وذلك المجهول بالعكس، فإذا كان لابد من الترجيح وجب قطعا ترجيح المعلوم ثبوته على ما لم يعلم ثبوته.

ولكن قد يقال: انه لا يقطع بثبوته. وقد قلنا: فرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد:

أما اعتقاد الرجحان فهو علم، والمجتهد ما عمل إلا بذلك العلم، وهو اعتقاد رجحان هذا على هذا.

أما رجحان هذا الاعتقاد على هذا فهو الظن، لكن لم يكن ممن قال الله فيه (إن يتبعون إلا الظن)، بل هنا ظن رجحان هذا على ذاك، وهذا هو الظن الراجح، ورجحانه معلوم، فحكم بما علم من الظن الراجح ودليله الراجح، وهذا معلوم له لا مظنون عنده. وهذا وجد في جميع العلوم والصناعات كالطب والتجارة وغير ذلك. أهـ

أقول: هذه المسائل العشر إنما هي غيض من فيض من الأدلة والنصوص والأصول والشواهد التي ذكرها العلماء، والتي يبصرها العالم بعلمه والعامي بفطرته وعقله. وفي الحقيقة فإن المشكلة لا تأتي من مجرد هذا الجهل، وإنما تأتي من تبديل الحقائق الشرعية الصحيحة بأخرى فاسدة لا يوجد مبرر لوجودها، لا شرعي ولا عقلي، والله المستعان وعليه التكلان.

وكتبه أبو بكر البغدادي

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير