لاشك أن الظن المقصود هنا هو الظن الراجح بالاتفاق، وان هذا الظن لم يكن مجرد وجهة نظر لعالم أو فقيه، بل تم الوصول إليه بعد جمع الأدلة الشرعية ودراستها دراسة نتج عنها هذا الظن. ثم إن العلماء الأمة أجمعوا على وجوب العمل بهذا الظن الراجح وجوبا قطعيا علميا لم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد بخلافه. أما الظن الذي لم يترجح أصلا فلا يترتب عليه ذلك. وهنا لابد من بيان أن الظن الراجح في مسألة ما هو أمر نسبي فقد يكون راجحا حسب اجتهاد عالم معين ولا يكون كذلك عند آخر، ولكن لابد من ترتب قطعية العمل بالراجح عند من ترجح عنده ذلك الظن.
فهاهنا مقدمتان:
الأولى: الاجتهاد في معرفة الظن الراجح حسب الأدلة الشرعية.
الثانية: وجوب اتباع هذا الظن وجوبا قطعيا علميا عند من ترجح عنده.
ثم إن هناك أمر قد يلتبس على البعض وهو أن هذا الوجوب العلمي للظن الراجح لا يتعارض مع كون هذا الظن الراجح قد لا يكون راجحا على وجه الحقيقة وأن العالم غير مأمور بالحقيقة عينها ولكنه مأمور بالأسباب الظاهرة التي تدل عليها وان عليه أن لا يقصر في استحصال هذه الأسباب ثم اعتقاد العمل بنتيجة ما استحصل منها كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها) (البخاري في الشهادات27،ومسلم في الأقضية رقم4).
وإليك ما قال شيخ الإسلام في ذلك، مع ملاحظة أنه رحمه الله تعالى يعبر عن المقدمة الأولى بـ (رجحان الاعتقاد) وعن الثانية بـ (اعتقاد الرجحان).
قال شيخ الإسلام في المجموع (13/ 112) جوابا على سؤال عن الفقه إذا كان من باب الظنون فكيف يكون علما؟ قال: المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه، فالعلم حاصل قطعا، والظن واقع في طريقه. وحقيقة هذا الجواب أن هنا مقدمتين:
إحداهما: أنه حصل عندي ظن (يعني راجح)، والثانية: قد قام الدليل القطعي على وجوب اتباع هذا الظن.
ثم قال: فان الظنون عليها أمارات ودلائل يوجب وجودها ترجيح ظن على ظن، وهذا أمر معلوم بالضرورة، والشريعة جاءت به ورجحت شيئا على شيء. والكلام على شيئين: في اتباع الظن، وفي الفقه هل هو من الظنون؟
أما الأول: فالجواب الصحيح هو أن كل ما أمر الله تعالى به فإنما أمر بالعلم. وذلك أنه في المسائل الخفية عليه أن ينظر في الأدلة ويعمل بالراجح. وكون هذا هو الراجح أمر معلوم عنده مقطوع به. وإن قدر أن ترجيح هذا على هذا فيه شك عنده لم يعمل به. وإذا ظن الرجحان فإنما ظنه لقيام دليل عنده على أن هذا راجح. وفرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد:
أما اعتقاد الرجحان فقد يكون علما وقد لا يعمل حتى يعلم الرجحان. وإذا ظن الرجحان أيضا فلا بد أن يظنه بدليل يكون عنده أرجح من دليل الجانب الآخر، ورجحان هذا غير معلوم فلابد أن ينتهي الأمر إلى رجحان معلوم عنده فيكون متبعا لما علم أنه أرجح. وهذا اتباع للعلم لا للظن وهو اتباع الأحسن، كما قال تعالى (فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها)، وقال (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم). فإذا كان أحد الدليلين هو الأرجح فاتباعه هو الأحسن، وهذا معلوم.
فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين، وحينئذ فما عمل إلا بالعلم وهذا جواب الحسن البصري وأبي وغيرهم.
والقرآن ذم من لا يتبع إلا الظن فلم يستند ظنه إلى علم بأن هذا أرجح من غيره، كما قال تعالى (مالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن)، وقال (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن)، وهكذا في سائر المواضع يذم الذين إن يتبعون إلا الظن، فعندهم ظن مجرد لا علم معه وهم يتبعونه.
¥