ومن خلال النصوص السابقة؛ نعلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره - إن احتاج إلى ذلك شرعاً - إلا:
1 - بعلم.
2 - وعدل وإنصاف.
فمن تكلم في غيره بغير علم، فهو مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، مخالف لقوله تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الإسراء 36)
ومن تكلم في غيره بظلم وجور فقد خالف قوله تعالى: ((وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) والكلام في الآخرين بدون علم، أو بظلم وهوى سبب لكثير من التفرق بالقلوب، وحدوث الشحناء والحسد والتباغض، بل سبب الفشل وذهاب وحدة الصف وقوته، والله المستعان.
* القاعدة الرابعة:
العدل في وصف الآخرين:
وهي جزء من القاعدة السابقة، ولكن لأهميتها أفردت لوحدها. والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: ((وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)) (هود:85)
والمقصود بالعدل في وصف الآخرين هو: العدل في ذكر المساوئ والمحاسن، والموازنة بينهما.
وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:كل ابن آدم خطَّاءٌ، وخير الخطاءين التوابون «(أخرجه أحمد 3/ 198، والترمذي 4/ 659، وابن ماجه 2/ 1420، وانظر "صحيح الجامع" برقم 4515)
فلا أحد يسلم من الخطأ، فلا ينبغي أن تدفن محاسن المرء لخطأ، كما أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث. (هو لفظ حديث أخرجه الدارمي 737 - 738، والدارقطني 1/ 21 - 22 وغيرهما، وقد أفاض ابن القيم في دراسته في تعليقه على "سنن أبي داود"، انظر عون المعبود 1/ 106 - 125، وانظر:إرواء الغليل 1/ 60)
ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو بغضاء بينه وبين من يصفه، فالله عز وجل قد أدبنا بأحسن أدب وأكمله، فقال سبحانه: ((وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)) (هود:85). وإنك لتجد كثيراً ممن يذم غيره بذكر مساوئه، ويغض الطرف عن محاسنه، بسبب الحسد والبغضاء، أو لتنافس مذموم بينهما.
ولكن المنصفون هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه حقه، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد، أو في المذهب والانتماء.
ومن العلماء الذين برز إنصافهم لغيرهم: الحافظ الذهبي -رحمه الله- فمن خلال كتابه القيم: "سير أعلام النبلاء"، والذي ترجم فيه لعدد من العلماء الأجلاء، وكذلك لعدد ممن اشتهر بين الناس وكان من أهل البدع أو الفسق أو الإلحاد، تجده لم يبخسهم ما لهم من صفات جيدة، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم.
وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، منها:
1 - قال عن عبد الوارث بن سعيد: (وكان عالماً مجوداً، ومن أهل الدين والورع، إلا أنه قدري مبتدع) السير (8/ 301)
2 - وقال عن الحكم بن هشام (وكان من جبابرة الملوك وفساقهم، ومتمرديهم، وكان فارساً، شجاعاً، وكان ذا دهاء وعتوٍّ وظلم، تملك سبعاً وعشرين سنة) السير (8/ 254)
3 - وقال عن الواقدي: (والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق اللسان، كبير القدر)، السير (7/ 142)
4 - وقال عن المأمون الذي تبنى فتنة القول بخلق القرآن وامتحن علماء أهل السنة بذلك: (وكان من رجال بني العباس حزماً، وعزماً، ورأياً، وعقلاً، وهيبة، وحلماً، ومحاسنه كثيرة في الجملة) السير (10/ 273)
5 - وقال في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي: (العلامة، المتبحر، ذو الفنون .. وكان أحد الأذكياء .. وكان ماجناً، قليل الدين، له نوادر) السير (11/ 256)
6 - وقال عن قرة بن ثابت: (الصابئ، الشقي، الحراني، فيلسوف عصره .. وكان يتوقد ذكاء) السير (13/ 285)
7 - وقال في ترجمة الخياط المعتزلي: (شيخ المعتزلة البغداديين، له ذكاء مفرط، والتصانيف المهذبة .. وكان من بحور العلم، له جلالة عجيبة عند المعتزلة) السير (14/ 220)
وهناك أمثلة كثيرة غير هذه، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة سير أعلام النبلاء، يجد بغيته -إن شاء الله-.
¥