قال ابن تيمية (2): أما أنواع الاختلاف فهي في الاصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه، منه ما يكون كل واحد من القولين أو أو الفعلين حقا مشروعا كما في القرآءات التي اختلف فيها الصحابة ... ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والاقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازه الى غير ذلك مما شرع جميعه ... ".
فعلى هذا فتعارض الفعلين هنا غير مؤثر، وانما هو اختلاف مباح وتنوع يجوز الاقتصار فيه على الوضوء مرة ويجوز مرتين، وتجوز ثلاثا. وهذا التعارض لم يؤثر على المقولات الفقهيه، اذ لم يوجد من الفقهاء من تحيز لهذا الفعل، ومنهم من تحيز لذاك، ولكن هناك أنواعا من تعارض الفعل قد أثرت، وكان لها صدى في مجال الفقه ومثالها:
ما روي البخاري في صحيحه (3) عن عبدالله بن بحينه - رضي الله عنه - أنه قال ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وروى أيضا عن عبد الله - وهو ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم.
فهذا فعلان مختلفان، رويا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد صحيحة.
وهذا الاختلاف ليس كسابقه، اذا ترتب عليه اختلاف أحكام سجود السهو بين العلماء، وبناء على ذلك اختلفت اجتهاداتهم في هذه المسألة.
فمنهم من ذهب الى أن السجدتين قبل السلام مطلقا وهم الشافعية (1)، ومنهم من ذهب الى انه بعد السلام مطلقا وهم الحنفية (2)، وذهب آخرون الى التفصيل وهم المالكية (3) فقالوا: ان كان السهو بزيادة فالسجود له بعد السلام، وان كان بنقصان فالسجود قبل السلام. أما أحمد والظاهرية فقالوا بالعمل بالأحاديث جميعا، أي السجود قبل السلام أحيانا، وبعد أحيانا أخرى حسب ما كان يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ويجب التنبيه هنا الى أن اختلافاتهم الكثيرة في شأن سجود السهو لم يكن مصدرها هذين الحديثين فقط، بل كان الاعتماد على عدد آخر من الأحاديث، ولكن الحديثين الذين وصفا فعل النبي كانا اساسيين في المسألة ومرجحين عند حصول الاشكال. وقد ذكر النووي (4) الاحاديث التي اعتمد عليها العلماء عند بيانهم أحكام سجود السهو، وبين أقوال كل منهم.
وأرى أن تفصيل المالكية تفصيل حسن يذهب التعارض والتضاد، وان كان رأى الشافعية كذلك لا يخلو من قوة ووجاهة. والكلام في هذه المسألة قد يطول فأكتفى بما نقلت من أقوال العلماء محيلا على كتبهم، وأرى أن أهمها كتاب العلائي (5) "نظم الفرائد لما تصمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" فهو مخصص لهذه المسألة. مستوعب لأقاويل العلماء ومناقشتها.
المطلب الرابع: توهم تعارض التقرير مع القول والفعل.
عرف ابن حجر (6) التقرير بأنه ما يفعل بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يقال ويطلع عليه بغير انكار.
وقال أبو شامة (7): اذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا صادرا من مسلم مكلف، أو سمع منه قولا، أو بلغه ذلك ولم ينكره مع فهمه له، دل على رفع الحرج في ذلك الفعل، فانه لو كان منكرا لأنكره.
ووجه دخول هذا المطلب تحت هذا المبحث، هو أن التقرير جزء من الحديث أو السنة، اذ أن تعريفها المتفق عليه بين الأصةوليين والمحدثين (1): "ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير".
ولذلك عندما يتعارض تقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قول أو فعل، فانما هو تعارض واقع بين حديثين، وعند حصول هذا التعارض لا نستطيع تقديم اجابات جاهزة بان نقول ان دلالة القول أو الفعل أقوى من دلالة التقرير، اذ هما فعل، والتقرير غالبا ما يكون سكوتا، أو أن يكون سكوت مقرون بتبسم أو اهتزاز، يفهم منه رضي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأمر وعدم انكاره (2).
ومن أمثلة تعارض التقرير مع القول ما رواه الشيخان (3) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت ألعب البنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذا دخل يتقمعن منه، فيسر بهن الى فيلعبن معي.
¥