أمَّا ما استشهد به لتضعيف الحديث بتوهين قيس بن أبي حازمٍ فهو غير مُسلَّمٌ، وإن سُلِّم فإنَّ صنيع عبد الجبار يُشعر بأنَّ الحديث يدور على قيسٍ هذا، والحال ليس كذلك، إذ أنَّ ذكر قيس بن أبي حازمٍ لم يَرِد إلاّ في رواية جريرٍ، والحديث رواه غير جرير من الصَّحابة، أوصلهم الكتَّانيُّ إلى (28) صحابياً فالحديث متواترٌ. ورواية جريرٍ أيضاً لا تدورعلىقيس عنه، إذ رواه الدَّارقُطنيُّ (3) عن يزيد بن جرير عن أبيه، وعن إبراهيم ابن أخي جريرٍ عن جرير بإسنادين ضعيفين، ورواه عن عُبيد الله بن جرير عن أبيه بإسنادٍ قويٍّ. فأيُّ حُجَّةٍ بعد ذلك في الاقتصار على رواية قيسٍ وجعلها حجر الرَّحى في المسأله؟؟.
وحديث قيس بن أبي حازم عن جرير مخرَّجٌ في الصَّحيح، وقيسٌ هذا قال عنه الذَّهبي (4): " ثقةٌ حجَّةٌ كاد أن يكون صحابياً، وثَّقة ابن معينٍ والنَّاس، وقال علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد: مُنكر الحديث، ثمَّ سمَّى له أحاديث استنكرها فلم يصنع شيئاً، بل هي ثابتةٌ، لا يُنكر له التَّفرُّد في سعة ما روى ... ، ثمَّ قال: قلت: أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلَّم فيه فقد آذى نفسه، نسأل الله العافية وترك الهوى ".
وقال ابن حجرٍ (1) عند تعرُّضه للرُّواة المتكلَّم عليهم في صحيح البُخاريِّ:" احتج به الجماعه، ويقال إنَّه كبر إلى أن خرف، وقد بالغ ابن معين فقال: هو أوثق من الزُّهريِّ، وقال يعقوب بن شَيْبة تكلَّم أصحابنا فيه، فمنهم من رفع قدره وعظَّمه وجعل الحديث عنه من أصحِّ الأسانيد، ومنهم من حمل عليه وقال: له أحاديث مناكير، ومنهم من حمل عليه في مذهبه، وأنَّه كان يحمل على عليٍّ، والمعروف عنه أنَّه كان يُقدِّم عثمان، ولذلك كان يتجنب كثيرٌ من قدماء الكوفيين الرِّاوية عنه، قلت: فهذا قول مبيَّنٌ مفصَّلٌ ".
أمَّا عن اختلاطه فقد ذكره غير واحدٍ، وبخاصَّة من صنَّف في هذا الفنِّ (2) إلاّ أنَّهم ذكروا أنَّ من تكلَّم في اختلاطه وأثبته هو اسماعيل بن أبي خالدٍ، راوي حديث الرُّؤية عنه فهل يُعقل أن يُؤرِّخ لاختلاط الرَّجل ثمَّ يروى عنه؟؟ ولهذا فيمكن الجزم بأنَّ رواية إسماعيلٍ عن قيسٍ كانت قبل اختلاطه،والله أعلم.
وبالنِّسبة لانتقاد عبد الجبار الثَّالث أنَّه حديث آحادٍ، فإنَّ هذا غير مُسلَّمٍ بما قدَّمته عن الكتَّانيِّ من ورود هذا الحديث عن (28) صحابياً، فهو متواترٌ.
ولقد صنَّف غير واحدٍ من العلماء (3) مصنفاتٍ جمعوا فيها أحاديث الرُّؤية وأوصلوها إلى درجة التَّواتر ردَّاً على ادِّعاء المعتزلة.
وبهذا يظهر أنَّ هذا الحديث غير متعارضٍ مع قاعدة التَّنزيه، وأنَّ قياسهم على الذي يرى يجب أن يكون جسماً قياسٌ فاسدٌ، قاسوا فيه الغائب عنهم على الشَّاهد،وهو قياسٌ فاسدٌ باتِّفاقٍ.
المطلب الثَّاني: القَدَر وأفعال العباد.
مسألة القدر إثباته أو نفيه، أو المبالغة في الإثبات مسألة شغلت الفكر الإسلاميَّ في القرنين الثَّاني والثَّالث، وتفرَّع عن ذلك عدَّة مدارس، وما يهمنا هنا الإشارة إلى مدرستين على طرفي نقيضٍ في تناول هذه المسأله، وكان لهما الأثر البالغ في فهم النُّصوص والتَّعامل معها.
المدرسه الأُولى: الجبريَّة، والجبر (1): هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته للرَّب تعالى، وهم أصنافٌ:
فالجبريَّة الخالصة: لا تُثبت للعبد فعلاً ولا قدرةً على الفعل أصلاً.
والجبريَّة المتوسِّطة:هي التي تثبت للعبد قدرةً غير مؤثِّرةٍ أصلاً.
أمَّا القدريَّة فهم على النَّقيض من الجبريَّة، إذ يُنفون القدر ويجعلون العبد مختاراً لأفعاله مُحدِثاً لها وليس الله- سبحانه وتعالى- هو الّذي خلقها فيه، وروى مُسلمٌ (2) في صحيحه عن يحي بن يَعْمرٍ قال: كان أوّل من قال في القدر بالبصره مَعبد الجُهَني، فانطلقت أنا وحميد ابن عبد الرَّحمن الحِمْيري حاجِّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطَّاب داخلاً المسجد ..... فقلت: أبا عبد الرَّحمن، إنَّه قد ظهر قِبَلَنا ناسٌ يقرؤون القرآن، ويتقَفَّرُون (4) العلم، وذكر من شأنهم،وأنَّهم يَزْعُمون أن لا قدر،وأنَّ الأمر أُنُفٌ (1). قال: فإذا لقيت
¥