أُولئك فأخبرهم أنِّي بريءٌ منهم، وأنَّهم برءآء مِنِّي.
وقد تلقَّف المعتزلة هذه المقولة-أي لا قدر وأنَّ الأمر أُنُف- وجعلوها أصلاً من أُصولهم، وذهبوا إلى أنَّ العبد يخلق أفعال نفسه، قال الكَعْبيُّ (2): " وأجمعوا على أنَّ الله لا يحبُّ الفساد، ولا يخلق أعمال العباد، بل العباد يفعلون ما أُمروا به ونُهوا عنه ".
وينطلق المعتزلة من فلسفةٍ تقول: إنَّ الله لو قدَّر على العباد ما سيفعلونه منذ الأزل لظلمهم، إذ أنَّه اختار لهم أفعالهم، والله لا يفعل الظُّلم، قال القاضي عبد الجبار (3):" وأحد ما يدل على أنَّه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأفعال العباد هو أنَّ في أفعال العباد ما هو ظلمٌ وجَورٌ فلو كان الله خالقاً لها لوجب أن يكون ظالماً جائراً، تعالى الله عن ذلك عُلوَّاً كبيراً ".
وبناءً على ذلك فقد نفوا علم الله المُسبق بالأُمور، وقالوا إنَّ الله يعلمها بعد حدوثها!! فلا غرابة إذاً إن وجدناهم يرفضون أحاديث بحجَّة أنَّها مناقضةٌ لأصل العدل عندهم، وبخاصَّةٍ إذا كانت تلك الاحاديث تدلُّ على تقدير الأفعال، أو علم الله المُسبق بكلِّ شيءٍ، وما يتدرج تحت هذين الأمرين.
والكلام على تعارض الحديث مع قاعدةِ القدر سيتَّخذ طريقين:
أوّلاً:توهُّم تعارض الأحاديث مع ما يُوهم الجبر ونفي اختيار العبد، إذ سبق أن بيَّنت أنَّ الجبريَّة ينفون قدرة العبد، وبالتَّالي فهم يقولون بأنَّ العبد مجبٌر على أفعاله، وليس له أيُّ اختيارٍ في أفعاله، وعلى النَّقيض منهم المعتزله ومن وافقهم من القَدَريَّة - الَّذين ينفون تصرُّف الله في إدارة أعمال العباد، وبالتّالي ينفون علمه بالأعمال قبل وقوعها، ومعلومٌ أنَّ هاتين النَّظرتين للقدر على قَدْرٍ من الخطأ ومجانَبَةِ الصَّواب، ومع ذلك فقد جاءت بعض الأحاديث كأنَّها تؤيِّد إحدى هاتين النَّظرتين مع ما فيهما من الخطأ، ومن أمثلة ذلك ما رواه الإمام مسلم في " صحيحه " (1) عن عبد الله بن عَمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله -صلّىالله عليه وسلّم- يقول: " كَتَبَ الله مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قبل أنْ يخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بخَمْسِيَن ألفَ سَنَةٍ،قال: وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ ".
ومن الأمثلة على هذا أيضاً ما رواه الشَّيخان (2) -والّلفظ لِمسلمٍ - عن أبي هُريرة أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم- قال: " تَحَاجَّ آدمُ وَمُوسَى فَحَجَّ آدمُ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أنْتَ آدمُ الَّذِي أغْوَيْتَ النَّاسَ وأخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ! فَقَالَ آدمُ: أنْتَ الّذِي أعْطَاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيءٍ واصْطَفَاهُ عَلى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: فَتَلُومَنِي عَلَى أمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ؟ ".
فالسَّامع لهذين الحديثين قد يجد فيهما تأييداً لمذهب الجبريَّة (3)، ومُتمَسَّكاً قد يتمسَّكُون به، ولذلك اجتهد المعتزلة في ردِّ هذا النَّوع من الأحاديث. وقد مرَّ معنا أثناء الحديث عن الأهواء كسببٍ من أسباب التَّعارض (4) بعض الاعتراضات الَّتي تفوَّه بها غيرهم على ألسنتهم للتَّنقيص من الأحاديث والرِّواية ومن ذلك قول الرَّجل-على حديث آدم وموسى-: " أين التقيا "؟!.
وقد يُردُّ على ذلك بأنَّ الاعتراض الماضي من قبيل التَّشغيب، لا من قبيل الحجَّة والاستدلال. ولهذا نستطيع القول أنَّ أعظم حججهم ما نقله القاضي عبد الجبار (1) عن أبي علي الجُبَّائِيِّ في جوابه لمن سأله عن سبب تضعيف حديث احتجاج آدم وموسى في حين أنَّه صحَّح أحاديث بنفس الإسناد فأجاب: أفليس إذا كان ذلك عُذراً لآدم يجب أن يكون عُذراً لكلِّ كافرٍ وعاصٍ، وأن يكون من لامهم محجوجاً؟؟.
وقد تبنَّت كلُّ فرقةٍ في هذا الحديث ما فهمته منه، بناءً على سابق أفكارٍ حملها كلُّ من تكلَّم في الحديث نفياً أو إثباتاً أو تأويلاً. قال ابن تَيْميَّة (2): " وقد ظنَّ كثيرٌ من النَّاس أنَّ آدم احتج بالقدر السَّابق على نفي الملام على الذَّنْب، ثمَّ صاروا لأجل هذا الظنِّ ثلاثة أحزابٍ:
¥