وعلى هذا فالسَّحر: إمَّا خداعٌ وتمويهٌ أو أمراضٌ. وعلى الأخير يُحمل سحر النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أي إنَّه من قبيل الأمراض، لامن قبيل السِّحر الّذي يُؤَثِّر على العقل فيَخْبَله، ويؤيِّد هذا ما استنتجه القُرطُبيُّ من الحديث حيث قال (1): " والشِّفاءُ إمَّا يكون برفع العِلَّة وزوال المرض .... ".
ثمَّ إنَّ ألفاظ الحديث قد أفصحت عن مدى تأثير السِّحر في النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم - إذ قالت عائشة: إنَّه كان يُخيَّل إليه أنَّه يفعل الشَّيء ولا يفعله، وفي روايةٍ أُخرى: حتّى كان يرى أنَّه يأتي النِّساء ولا يأتيهنَّ. وفي روايةٍ عند عبد الرَّزاق (2) أنَّ الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - حُبس عن عائشة خاصةً.
وفي حديث ابن عبّاس عند ابن سعدٍ (3): أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -: مرض، وأُخذ عن النِّساء والطَّعام والشَّراب.
قال القاضي عِياض (4): فقد استبان من مضمون هذه الرِّوايات أنَّ السِّحر أنَّما تسلَّط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنَّه إنَّما أثَّر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وامرضه.
وعلى هذا فالسِّحر أمرٌ واقعٌ،وحقيقةٌ مُشاهدةٌ من خلال آثارها، وما وقع على الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - منه لم يؤثِّر على عقله، أو على ما هو بصدده من التَّبليغ، لأنَّ الله - عزّوجلَّ - قد عصمه من هذا.
ثُمَّ إذا قمنا بالتَّمييز بين نوعين للعصمة يمكن إزالة الاختلاف، وفهم الحديث دون عناءٍ،أو إنكار لبعض الأحاديث، وذلك بالتَّمييز بين العصمة في التَّبليغ والفتوى ـ فهذه واجبة الإثبات ـ وبين العصمة في الأمور الدُّنيويَّة والبشرية ـوهذه يعتريه فيها ما يعتري بقيَّة البشر ـومنها إيذاؤه ومحاولة ضرِّه بما دون القتل.
وفائدة هذه الحادثة التَّأكيد على بشريَّة الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - وأنَّه يعتريه ما يعتري البشر من مرضٍ وسحرٍ [غير مُؤثِّرٍ على العقل]، ولا حجَّة لمن أنكر هذا من المعاصرين والأقدمين سوى التعلُّق بآياتٍ محمَلها غير محمل الحديث، إذ قال المُفسِّرون عند قوله تعالى على لسان الكافرين -: {إنْ تَتَبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورَاً} (1): أي " قد سُحِر وأُزِيل عن حدِّ الاعتدال" (2)، أو: " من المسحور الّذي قد خبل السِّحر عقله، وأفسد كلامه " (3). وهذا ما لم يقله حتّى أعداؤه، ولو حصل لفرحوا به وأذاعوه وأشاعوه.
والبعض قد رفض الحديث بحجَّة عقله القاصر، لمّا لم يفهم المراد من الحديث، ولم يقف على رواياته وألفاظه، لأنَّه ليس من أهل الصَّنعة، بل لأنَّه لم يقف على ألفاظ الحديث من الكتب المشهوره والمتيسر’ لكل أحد، ولو وقفوا على الفاظه لما عاندوه (4).
المبحث الثّاني
توهُّم تعارض الحديث مع القواعد الشَّرعيَّة الفِقهيَّة والأُصوليَّة
تتمَّةً لما تناولته في المبحث الأول من تعارض الحديث مع قواعد العقائد، فإنِّي سأتعرَّض في هذه الصَّفحات لتعارض الحديث مع بعض القواعد الشَّرعيَّة والأُصوليَّة، وهو يعد ُّتتمَّة كذلك لما تَّم بحثه في الفصل الأوّل من هذا الباب وهو تعارض الحديث مع النَّصِّ من قرآنٍ وسُنَّةٍ، أو من بابٍ آخر مع الأدل’ المتفق عليها بين الجميع.
ولهذا فإنَّي أستطيع القول بأنَّ ما سأتعرَّض له هاهنا هو تعارض الحديث مع بعض الأدلة المختلف فيها، بالإضافة إلى بعض القواعد المُعتبرة، الّتي تكاد ترتقي إلى درجة القطع، بل إنَّ من الباحثين من جعلها كذلك. فمخالفة الحديث لهذه القواعد الأُصوليَّة يجب أن يُنظر إليه بإمعانٍ، ويُدرس بتأنٍ وتثبُتٍ، لأنَّ هذه الأُصول مبنيَّةٌ على نصوصٍ قرآنيَّةٍ كما سيأتي، فتعارضها مع الحديث هو تعارضٌ مع ما يُستنبط من القرآن والسُّنَّة، وهذا بيان ما قدَّمت له.
المطلب الأوّل: تعارض الحديث مع بعض الأُصول المختلف فيها عند الفقهاء.
وأقصد بالأُصول المختلف فيها، تلك الّتي ارتضاها قومٌ وجعلوها أدلةً مُستقلَّةً بذاتها، ونازعهم فيها آخرون فلم يرتضوها ولا سلّموا لمن أخذ بها. وهذا ينطبق على كلَّ دليلٍ أو أصلٍ سوى القرآن والسُّنَّة عند جميعهم،أو سوى القرآن والسُّنَّة والإجماع والقياس عند جمهرتهم الغالبة، والأُصول الّتي سأتكلَّم عنها هي:
¥