أوّلاً: عمل أهل المدينة: وهذا أصلٌ اعتمده المالكيَّة وعوَّلُوا عليه جدَّاً حتَّى قدَّموه في بعض الأحيان على أخبار الآحاد، ولم أجد حدّاً واضحاً عند علماء المالكيه لهذا العمل، بل إنَّ أصحاب مالكٍ-رحمه الله- قد اختلفوا في تفسير مذهبه، وتوضيح مراده بعمل أهل المدينة: فمنهم من قال: " إنَّما أراد بذلك ترجيح رواياتهم على رواية غيرهم، ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى، ولا تمتنع مخالفته، ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ". (1)
ويرى القاضي عِياضٌ (1) أنَّ إجماع أهل المدينة على ضربين:
" ضربٌ من طريق النَّقل والحكاية الذي تؤثره الكافَّة عن الكافَّة وعملت به عملاً لا يخفى ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم .......
النَّوع الثَّاني: إجماعهم على عملٍ من طريق الاجتهاد والاستدلال، وهو مختلَفٌ فيه بين المالكيه أنفسهم.
واقتصر أبو الوليد الباجي (2) في تقريره لمذهب أهل المدينه، على النَّوع الأوّل فقال (3):
"إنَّما عوَّل مالك-رحمه الله-ومحققوا أصحابه علىالإجماع بذلك فيماطريقه النقل [كالمد] (4) والصَّاع، وترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة، وغير ذلك من المسائل الّتي طريقها النَّقل، واتَّصل العمل بها في المدينة على وجهٍ لا يخفى مثله، ونُقل نقلاً متواتراً ".
وقد نازع العلماء من غير المالكيَّةِ المالكيَّة في هذا الأصل، حيث لم يَروا للمدينة مزيَّةً على غيرها، ولم يُفرِّقوا بين عمل أهل المدينة، وعمل أهل مكة، وعمل أهل الشَّام، أو العراق وغير ذلك، لأنَّ الصَّحابة وُجدوا في هذه الأمصار جميعاً، وليس لأحدٍ أن يفرِّق بين صحابة المدينة، وغيرهم ممَّن نزلوا الأمصار أو نقلوا السُّنن والأخبار (5). وهذا ولَّد نقاشاً وجدالاً بين المالكيه وغيرهم باستثناء قليلٍ.
واستقصاء حجج المالكيَّة، وحجج معارضيهم في هذا الشَّأن، ليس من شرط هذا البحث، وللوقوف عليها تراجع الكتب المتخصِّصة في ذلك ومنها كتاب: " عمل أهل المدينة، يبين مصطلحات مالك وآراء الأُصوليين " (1) ولكنِّي سأكتفي بعرض وجهة نظرٍ محايدةٍ عرضها شيخ الإسلام ابن تيميَّة (2) حيث قال (3): " وفي القرون الّتي أثنى عليها رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - كان مذهب أهل المدينه أصحَّ مذاهب أهل المدائن، فإنَّهم كانوا يتأسُّون بأثر رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من سائر الأمصار دونهم في العلم بالسُّنَّة النَّبوِّيَّة ... " قال: " ولهذا لم يذهب أحدٌ من علماء المسلمين إلى أنَّ إجماع أهل مدينةٍ من المدائن حجَّةً يجب اتِّباعها غير المدينة، لافي تلك الأعصار ولا فيما بعدها،لاإجماع أهل مكة، ولا الشَّام ولا العراق، وغير ذلك من أمصار المسلمين ".
وقال أيضاً (4): " والتَّحقيق في " مسألة إجماع أهل المدينة " أنَّ منه ما هو متَّفقٌ عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور ائمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلاّ بعضهم. وذلك أنَّ إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:
الأُولى: ما يجري مجرى النَّقل عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -، مثل نقلهم لمقدار الصَّاع، والمُدِّ، وكذلك صدَقَة الخضروات والأحباس، فهذا ما هو حجَّةٌ باتِّفاق العلماء.
المرتبة الثَّانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفَّان، فهذا حجَّة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشَّافعيِّ ..... وكذا ظاهر مذهب أحمد: أنّ ما سنَّه الخلفاء الرَّاشدون فهو حجَّةٌ يجب اتِّباعها.
المرتبة الثَّالثه: إذا تعارض في المسأله دليلان كحديثين وقياسين، جُهل أيُّهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينه ففيه نزاعٌ، فمذهب مالكٍ والشَّافعيِّ أنَّه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنَّه لا يرجح بعمل أهل المدينة.
أمَّا المرتبة الرَّابعة: فهي العمل المتأخِّر بالمدينة،فهذا هل هو حجَّة ٌشرعيَّةٌ يجب اتِّباعه أم لا؟ فالّذي عليه أئمة النَّاس أنَّه ليس بحجَّةٍ شرعيَّةٍ، هذا مذهب الشَّافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم ".
وبناءً على ذلك إذا تعارض حديث مع عمل أهل المدينة، فإلى أيهما يجب المصير؟
¥