يرى المالكيَّة تقديم عمل أهل المدينة على الحديث، وبهذا فإنَّهم يُرجِّحون العمل على الأحاديث. وقد ذكر القاضي عِياضٌ (1) عن ابن القاسم، وابن وهبٍ: " رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث ". ونقل عن ربيع’ أنَّه قال: " ألفٌ عن ألفٍ، أحبُّ من واحدٍ عن واحدٍ ".
وقال القاضي عياض (2): " ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة وجوهٍ: إمَّا أن يكون مطابقاً لها فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النَّقل، وترجيحه إن كان من طريق الاجتهاد ..... وإن كان مطابقاً لخبٍر يعارضه خبرٌ آخر كان عملهم مرجَّحاً لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت ..... وإن كان مخالفاً للأخبار جمةًه، فإن كان إجماعهم من طريق النَّقل ترك له الخبر بغير خلافٍ عندنا في ذلك، وعند المحقِّقين من غيرنا على ما تقدَّم ".
إذاً فالمالكيَّة يرون أنَّ الحديث مرجوحٌ إن تعارض مع عمل أهل المدينة وهو محور النِّزاع مع غيرهم في هذه المسألة.
ومن أمثلة هذا ما رواه مالك في الموطأ (3) عن ابن عمر أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: " المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخَيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا،إلاّ بَيْعَ الخَيَارِ ".
قال مالك: وليس لهذا عندنا حدٌّ معروفٌ، ولا أمرٌ معمولٌ به فيه (4).
وهذه المقولة من الإمام مالك ولَّدت جدلاً كبيراً، وكلاماً كثيرا بين أصحابه وأتباعه، حول مراده منها، وهل هذا ردٌّ منه للحديث أم لا؟ وأجابوا بأجوبةٍ كثيرةٍ لا يخلو أغلبها من تعسُّفٍ وتكلُّفٍ.
وقبل استعراض بعض أجوبتهم على الحديث، يجب معرفة موقع هذا الحديث من حيث القبول والرَّدِّ، لنرى هل يقوى على مواجهة تلك الأجوبه أم لا؟.
قال ابن عبد البَرِّ (1): " وأجمع العلماء على أنَّ هذا الحديث ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وأنَّه من أثبت ما نقل الآحاد العدول، واختلفوا في القول به والعمل بما دلَّ عليه: فطائفةٌ استعملته وجعلته أصلاً من أُصول الدِّين في البُيوع، وطائفةٌ ردَّته، فاختلف الَّذين ردُّوه في تأويل ما ردُّوه به، وفي الوجوه الّتي بها دفعوا العمل به ".
فأمَّا الّذين ردُّوه: فمالكٌ، وأبو حَنيفة، وأصحابهما، ولا أعلم أحداً ردَّه غير هؤلاء، إلاّ شيءٌ روي عن إبراهيم النَّخْعيِّ ".
وكما قدَّمت فإنَّ الوجوه الّتي ردَّ بها أصحاب مالكٍ على هذا الحديث متعدِّدةٌ؛ منها أنَّه منسوخٌ (2)، وقد ردَّ ابن حجرٍ هذا على قائليه بقوله (3):" ولا حجَّة في شيءٍ من ذلك لأنَّ النَّسخَ لا يثبت بالاحتمال ".
ولعل أقوى ما تمسَّك به هؤلاء هو قولهم إنَّ هذا الحديث مخالفٌ لعمل أهل المدينة وإجماعهم حجَّة فيما أجمعوا عليه، وهذا مرادي من سياق المثال.
ولم يرتضِ المحقِّقُون من المالكيَّة هذا القول والإطلاق، فقال ابن عبد البرِّ (4): " وقال بعضهم لا يصحُّ دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأنَّ سعيد بن المسيب، وابن شهابٍ --وهما أجلُّ فقهاء أهل المدينة -روي عنهما منصوصاً العمل به، ولم يُرو عن أحدٍ من أهل المدينة - نصاً - ترك العمل به، إلاّ عن مالكٍ وربيعةَ، وقد اختلف فيه عن ربيعة، وقد كان ابن أبي ذئب ٍ (1) - وهو من فقهاء أهل المدينة في عصر مالكٍ - ينكر على مالك اختياره ترك العمل به حتَّى جرى منه لذلك في مالكٍ قولٌ خشنٌ، حمله عليه الغضب، ولم يُستحسن مثله منه، فكيف يصحُّ لأحدٍ أن يدَّعي إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؟ هذا ما لا يصحُّ القول به ".
وقال المَازريُّ (2): " وأمَّا قول بعض أصحابنا: أنَّه مخالفٌ للعمل فلا يُعوَّل عليه أيضاً، لأنَّ العمل إذا لم يرد به عمل الأُمَّة بأسرها، أو عمل من يجب الرُّجوع إلى عمله فلا حجَّة فيه ".
ولهذا فلا أرى متمسَّكاً للمالكيَّة في ردِّ هذا الحديث بحجَّة مُخالفة عمل أهل المدينة، بل لا أجد لهم حجَّةً مُطلقاً في ردِّ هذا الحديث، وكما قال النَّوَويَُّ (3): " وهذه الأحاديث الصَّحيحة تردُّ على هؤلاء، وليس لهم عنها جوابٌ صحيحٌ، والصَّواب ثُبوته كما قاله الجمهور ".
¥