فعمل أهل المدينة إذاً يجوز أن يوافق حديثاً كما قال ابن تيميَّة، أو يكون مرجِّحاً بين حديثين هو موافقٌ لأحدهما، بل هو من أقوى المرجِّحات كما قال القاضي عِياض، ولكن لا يُقدَّم على الأحاديث إن عارضها.
ثانياً: سدُّ الذَّرائِع.
الذَّريعة في الُّلغة (4):الوسيلة، فيُقال:تذرَّع بذَريعةٍ، أي توسَّل بوسيلةٍ، وفلانٌ ذريعتي إلى فُلانٍ، وقد تذرَّعتُ به إليه: أي توسَّلتُ.
أمَّا في الاصطلاح فقد قال الباجيُّ (5):هي المسأله الَّتي في ظاهرها الإباحة، ويُتوصَّل بها إلى فعل المحظور. وقال ابن العربي (6):هو كلُّ عقدٍ جائزٍ في الظَّاهر يؤول أو يمكن أن يُتوصَّل به إلى محظورٍ. أذاً فكلُّ مباحٍ في ذاته لكنَّه يؤدي إلى محظورٍ فهو ممنوعٌ، فالنَّظر إلى الصُّور والتَّماثيل مباحٌ في أصله، لكنَّ النَّظر إلى الصُّور المثيرة والعارية ممنوعٌ لأنَّه يؤدِّي إلى محظورٍ قد يصل إلى الزِّنا.
وسدُّ الذَّريعة أصلٌ معتبرٌ في الشَّريعة دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة وعمل الصَّحابة،فمن القرآن قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِيْنَ يَدْعُوَن مِنْ دُوِن اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1).قال ابن عاشور (2): "وقد احتجَّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصلٍ من أُصول الفقه عند المالكيَّة وهو الملقَّب بمسئلة سدِّ الذَّرائع، قال ابن العربي (3):منع الله في كتابة أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدِّي إلى محظورٍ، ولأجل هذا تعلَّق علماؤنا بهذه الآية في سدِّ الذَّرائع، وهو كلُّ عقدٍ جائزٍ في الظَّاهر يؤول أو يمكن أن يُتوصَّل به إلى محظورٍ ".
وفي السُّنَّة ما رواه البُخاريُّ (4) وغيره عن عبد الله بن عَمروٍ-رضي الله عنهما -قال:قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم -"إنَّ أكْبَرَ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ"،قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرَّجل والديه؟ قال:"يَسُبُّ الرَّجُلَ أبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أبَاهُ،وَيَسُبُّ أُمَّهُ ".
قال ابن حجرٍ (5):" قال ابن بطَّالٍ (6):هذا الحديث أصلٌ في سدِّ الذَّرائع، ويُؤخذ منه أنَّ من آل فعله إلى محرَّمٍ يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم".
أمَّا عن عمل الصَّحابة فقد روى عبد الرزاق (1) عن أبي سريحه} حذيفه بن أسيد {قال:رأيت أبا بكرٍ وعمر وما يُضحِّيان.وزاد الطَّبراني (2):" مخافة أن يُستَّن بهما ". وأخرج عبد الرزاق (3) أيضاً عن عُقبه بن عمرو قال:"لقد هممت أن لا أدع الأُضحية وإنِّي لمن أيسركم بها، مخافة أن يحسب أنَّها حتمٌ واجبٌ ".
فهذه نصوصٌ صريحةٌ تدلُّ على أخذ الصَّحابة بأصل سدِّ الذَّرائع، إضافةً إلى نصوصٍ أُخرى من القرآن والسُّنَّة وعمل الصَّحابه تركتها خوف الإطالة (4)، إذ بما ذكرت قد تحقَّق المقصود.
وبناءً على ما مرَّ فإنَّ هناك نصوصاً جاءت تؤيِّد أصل سدِّ الذَّريعة، ونصوصاً تخالف هذا الأصل، ممّا يقتضي عرض كلا النَّصيين على موازين المحدثين، والنَّظر فيهما درايةً وروايةً.
فقد روى البُخاريُّ (5) ومُسلمٌ (6) وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: " كنَّا في غَزَاةٍ، فَكَسَعَ (7) رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاريُّ:يا للأنصار،وقال المهاجريُّ: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم - فقال: " مَا بَال دَعْوَى جَاهِليّة"؟
قالوا: يا رسول الله، كَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال:" دَعُوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ " فسمع ذلك عبد الله بن أُبيٍّ فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فبلغ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - فقام عمر، فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم -: " دعه لا يتحدَّث النَّاس أنَّ محمداً يقتل أصحابه ".
فالرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - أخذ بمبدأ سدِّ الذَّرائع فلم يقتل هذا المنافق، وهذا الحديث من أدلة القائلين بمشروعيَّة هذا المبدأ.
¥