إلاّ أنَّه ورد حديثٌ يخالف هذا الحديث، ويخالف مبدأ سدِّ الذَّرائع أيضاً، وهو ما رواه أحمد في " المسند " (1): عن أبي بَكْرَة أنَّ نبيَّ الله - صلّى الله عليه وسلَّم - مرَّ برجلِ ساجدٍ وهو ينطلق إلى الصَّلاة، فقضى الصَّلاة ورجع عليه وهو ساجدٌ فقام النَّبيُّ-صلّى الله عليه وسلّم - فقال: " مَنْ يَقْتُلُ هَذَا "؟ فقام رجلٌ فحسر عن يديه فاخترط سيفه وهزَّه ثمَّ قال: يا نبيَّ الله، بأبي أنت وأُمي كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أن لا اله إلاّ الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله ثمَّ قال: مَنْ يَقْتُلُ هَذَا"؟ فقام رجلٌ فقال: أنا فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزَّه حتَّى أرعدت يداه، فقال النَّبيُّ-صلّى الله عليه وسلّم-:"وَالّذِي نَفْسُ محمَدٍ بِيَدِهِ لَو قَتَلْتُمُوهُ لَكَانَ أوّل فِتْنَةٍ وآخِرَهَا"
(1)
فالتَّعارض إذاً واقعٌ، والتَّناقض حاصلٌ بين الأحاديث الَّتي تمنع قتل المنافقين سدَّاً للذَّرِيعة، وبين هذا الحديث الّذي يأمر فيه النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - بقتل هذا الرَّجل. أي بين الحديث وبين مبدأ سدِّ الذَّريعة من جهةٍ أُخرى.
إلا أنني إن أردت أن أفهم الأحاديث الّتي مرَّت مع الشَّواهد على أنَّها حادثة واحدة في حقِّ رجلٍ واحدٍ، وهو ما يوحيه السِّياق، فإنِّي سوف ادَّعي اختلافاً مُؤثَّراً بين سياق هذه الأحاديث مما يجعلها في درجةٍ لا تقوى على معارضة الأحاديث الصِّحاح، أو المبدأ الواضح أو أن يُقال إنَّ المصلحة كانت تتغلَّب في مسألة قتل المنافقين، وأنَّ الضَّرر الذي سيلحق الجماعة المُسلمة عظيمٌ آنذاك، سيما وأنَّ ضرر المنافقين لم يتعدَّاهم، بل انقرض بانقراضهم، أمَّا ذاك الرَّجل والّذي جاء وصفه بوصفٍ ينطبق على الخوارج فإنَّ ضرره يتعدَّى لغيره، بل لقد قامت فتنةٌ أُزهقت فيها أرواحٌ كثيرة، ويؤيِّد هذا ما جاء في نهاية رواية أبي يَعْلى: " لَوْ قُتِلَ اليَوْمَ مَا اخْتَلَفَ الرَّجُلانِ مِنْ أُمَّتِى". فهو وأمثاله إذاً سبب الفُرقة والاختلاف، وأيُّ ضررٍ أشدُّ من ذلك؟؟.
ثالثاً: توهُّم تعارض الحديث مع المصلحة.
المصلحة في الُّلغة (1): هي المنفعة وزناً ومعنىً، والمصلحة واحدة المصالح، واستَصْلَح نقيضُ استَفْسَد.
أمَّا في الاصطلاح فهي (2): " المنفعة الّتي قصدها الشَّارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم، ونفوسهم وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيبٍ فيما بينها ".
وجلب المصلحة ودَرء المفسدة أمرٌ دلَّ عليه العقل والشَّرع " إذ لا يخفىعلى عاقلٍ قبل ورود الشَّرع أنَّ تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان،وعن غيره محمودٌ، وأنَّ تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمودٌ حسنٌ، وأنَّ درء أفسد المفاسد فأفسدها محمودٌ حسنٌ" (3).
إذاً فالمصلحة معتبرةٌ عقلاً وشرعاً، ولقد استدل العلماء على مشروعيتها بعدَّة أدلَّةٍ (4)، لعل من أوضحها دلالة قول الله تعالى: {إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوُن} (5) وقول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -:" لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارُ " (6).
ففيما يخصُّ دلالة الآيه على المصلحه قال ابن عاشور (1):" فهذه الآية استئنافٌ لبيان كون الكتاب تبياناٌ لكلِّ شيءٍ، فهي جامعة لأُصول التَّشريع " وقال: " والعدل إعطاء الحقِّ لصاحبه، وهو الأصل الجامع للحقوق الرَّاجعة إلى الضَّروري والحاجِّيِّ، من الحقوق الذَّاتيَّة وحقوق المعاملات ". وقال " ونهى الله عن الفحشاء والمنكر والبغي وهي أُصول المفاسد ". فالآية جاءت إذاً ببيان المصالح والمفاسد، فأمرت بالأوّل ونهت عن الثّاني.
أمَّا دلالة الحديث فهي واضحةٌ بيِّنةٌ، قال ابن رجبٍ (2): " وممّا يدخل في عموم قوله - صلّى الله عليه وسلّم -: لا " ضرر " أنَّ الله لم يكلِّف عباده فعل ما يضرهم ألبتة، فإنَّ ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم ".
¥