وقال الهَيْتَميُّ (3): " إنَّ معنى الحديث ما مرَّ من نفي سائر أنواع الضَّرر والمفاسد شرعاً إلاّ ما خصَّه الدَّليل، وإنَّ المصالح تُراعي إثباتاً، والمفاسد تُراعي نفياً لأنَّ الضَّرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشَّرع لزم إثيات النَّفع الّذي هو المصلحة " (4).
وللمصالح ضوابط يجب أن تتوفَّر فيها حتَّى تُعدَّ مصلحةً مُعتبرةً، وقد فصَّلها الدكتور البُوطي (1) وأسهب في شرحها، وأنا أذكرها على الإجمال:
" 1 - اندراجها في مقاصد الشَّريعة.
2 - عدم معارضتها للكتاب.
3 - عدم معارضتها للسُّنَّة.
4 - عدم معارضتها للقياس.
5 - عدم تفويتها مصلحةً أهمَّ منها."
فالمصلحة إذا كانت تعارض نصَّاً فهي غير مُعتبرةٍ، وهذا هو الصَّواب لكنَّنا وجدنا خلاف هذا عند بعض العلماء نظريَّاً وعمليَّاً، إضافةً إلى أنَّي قد وجدت بعض الأحاديث تتعارض والمصلحة.
ذكر أغلب الكاتبين في موضوع المصلحة أنَّ الطُّوفي كان له رأيٌ خاصٌّ في المصلحه عرَّفه أثناء شرحه لحديث: " لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارٌ ". من شرحه للأربعين حيث ذهب لتقديم المصلحة على النَّصِّ، فقال (2): " وأمَّا معناه (أي الحديث) فهو ما أشرنا إليه من نفي الضَّرر والمفاسد شرعاً وهو نفيٌ عامٌّ إلاّ ما خصَّصه الدَّليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلَّة الشَّرع، وتخصيصها بها في نفي الضَّرر وتحصيل المصلحة ". وقد تكفَّل غيري بردِّ هذه الدَّعوى فلا أتشاغل بردِّها لئلا أخرج عن مقصود البحث.
فالمصلحة تنطلق من النُّصوص، ويمكن فهمها حسب مقاصد الإسلام العظيمة الكبرى، المستمدَّة من النُّصوص الشَّرعيَّة، ولهذا فلا يُعقل أن نقبل قول من يقدِّم المصلحة على النَّص، وبخاصَّةٍ إذا كانت دلالة هذا النَّصِّ قطعيَّةً لا يدخلها تأويلٌ أو تخصيصٌ أو تقييدٌ.
أمَّا فهمها حسب مقاصد الشَّريعه فقد تعرَّضت لذكره قبل قليلٍ عندما نقلت في شروط المصلحة أو ضوابطها: اندراجها تحت مقاصد الشَّريعة، ومقاصد الشَّريعة كما هو معروفٌ تنقسم إلى اقسام،وما يهمُّني هنا أن أُبيِّن أنَّ الشَّريعة راعت مصالح العباد فيما يتعلَّق بحفظ دينهم، وحفظ عقولهم، وحفظ أنفسهم، وحفظ أموالهم، وحفظ فروجهم، وهذه المقاصد العُليا للإسلام من أوجب الواجبات لأنَّ الدِّين جاء لتحقيقها، وكذا ما ينبني عليها.
قال الشَّاطِبي (1): " ومن ذلك أنَّ البناء على المقاصد الأصليَّة ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب، إذ المقاصد الأصليَّة دائرة على حكم الوجوب، من حيث كانت حِفظاً للأُمور الضَّروريَّة في الدِّين المُراعاة باتِّفاق ".
وبناءً على ذلك فمخالفة إحدى المقاصد، يدخل في باب النَّهي، إن لم يكن التَّحريم ومع ذلك فقد وجدنا أحاديث قد تتعارض مع ما يُفهم من بعض هذه المقاصد، ومثال ذلك ما رواه مُسلم في "صحيحه" (2): عن أبي هُريرة قال: أتى النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله إنَّه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يُرخِّص له فيصلي في بيته، فرخَّص له، فلمَّا ولَّى دعاه فقال: " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ "؟ فقال: نعم، قال: " فَأجِبْ ".
فالظَّاهر من هذا الحديث أنَّه يتعارض مع مقصد حفظ النَّفس، وهي مصلحةٌ مُعتبرةٌ إذ كيف لم يُرخِّص النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - لهذا الأعمى أن يصلي في بيته في حين أعذر الشَّارع أصنافاً من النَّاس بالتَّخلُّف عن الجماعة لأُمورٍ لا تصل من حيث ضررها على النَّفس أو على المال ما يبلغ بهذا الأعمى لو عرض له عارضٌ.
وقد أجاد ابن حِبَّان (3) في استيعاب وتَعداد أصحاب الأعذار الّذين سُمح لهم بالتَّخلُّف عن صلاة الجماعة،مما يوجب النَّظر إلى هذا الحديث مُجتمعاً مع تلك الأصناف الّتي عدَّدها ابن حِبَّان، لنستنتج أنَّ عُذره يُضاهي إنْ لم يكن يفوق أعذار أصنافٍ من هؤلاء، ممّا يُحتِّم علينا التماس بعض الأوجه الّتي يمكن أن يحمل عليها الحديث، ففهم قومٌ أنَّ المُراد بعدم التَّرخيص للأعمى مع بقاء أجر الجماعة.
¥