قال الخَطَّابيُّ (1): " وأكثر أصحاب الشَّافعيِّ على أنَّ الجماعة فرضٌ على الكِفاية، لا على الأعيان، وتأوّلوا حديث ابن أُمِّ مَكْتُوم على أنَّه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعه، وانك لا تحرز اجرها مع التخلف عنها بحال ".
وقال علي القَاري (2): " معناه - أي الحديث -: لا أجد لك رخصةً تُحصِّل لك فضيلة الجماعة من غير حضورها، لا الإيجاب على الأعمى، فإنَّه - عليه السَّلام - رخَّص لعُتْبَان بن مالكٍ (3) في تركها ".
وهذا الفَهم الذي أرتضيه، والّذي يقتضيه مسلك الجمع بينه وبين أحاديث ذوي الأعذار الذين احتجَّ لهم ابن حِبَّان، وبذلك يزول التَّعارض مع هذه القاعده.
المطلب الثَّاني: توهُّم تعارض الحديث مع بعض القواعد والمسائل الأُصوليَّة.
لقد تحدَّثت في المطلب الأوّل عن تعارض الحديث مع بعض الأدلّة المختلف فيها عند الأُصوليين، وكتتمَّةٍ لذلك رأيت أن أتعرَّض الآن لتعارض الحديث مع بعض القواعد الأُصوليَّة المعتبرة، كقاعدة: رفع الحَرَج، وقاعدة عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأخيراً التَّعارض مع ما يوهم رفع التَّكليف. وهذا بيان كلِّ ذلك.
أوّلاً: تعارض الحديث مع قاعدة رفع الحرج:
الحَرج في الُّلغة (4): هو المكان الضَّيِّق الكثير الشَّجر، أمَّا في الاصطلاح (5): " فهو كلُّ
ما أدَّى إلى مشقَّةٍ زائدةٍ في البدن أو النَّفس أو المال حالاً أو مآلاً ". ورفع الحَرَجِ: إزالة ما يؤدِّي إلى هذه المشاق.
ورفع الحرج قاعدةٌ متينةٌ، بَل أصلٌ عظيمٌ من أُصول هذا الدِّين مستمدَّةً من النُّصوص المُتواترة والمُتوافرة فقد قال تعالى: {مَا يُرِيْدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيْدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوُن} (1).وقوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ مِلِّةَ أبِيْكُمْ إبْرَاهِيْمَ} (2).
ودلالة هاتين الآيتين واضحةٌ جليَّةٌ في رفع الحرج، قال ابن العربي (3): " ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام ".
وكذلك قوله تعالى: {يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ} (4)، إضافةً إلى الآيات الكثيرة في هذا الشَّأن الّتي تدلُّ على رفع الحرج، والتَّيسير والتَّخفيف.
أمَّا الأحاديث الّتي تدلُّ على مشروعيَّة هذا الأصل فهي كثيرة جداً؛ منها ما أخرجه الشَّيخان (5) عن أبي موسى الأشعري أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - لمّا بعثه هو ومُعَاذ إلى اليمن قال: " يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا "،وغير ذلك من الأدلَّة الكثيرة (6).
إذاً فرفع الحرج أصلٌ مقطوعٌ به وقاعدةٌ متينةٌ من قواعد الشَّرع فلا يُعقل بعد هذا أن نجد أحاديث تتعارض مع هذه القاعدة، وإن تأكَّدْنا من هذا فيجب أن نمعن النَّظر في الحديث والتَّأمُّل في دلالته، لعلَّ له مخرجاً، أو لعلَّه لم يُفِدْ ما تبادر إلى أذهاننا من تعارضٍ، ومثال ذلك ما ذكره الشَّاطبي () من أنَّ عائشة وابن عبَّاسٍ قد ردَّا خبر أبي هُريره في " غَسْل اليدين قبل إدخالهما في الإناء () "، استنادا إلى أصلٍ مقطوعٍ به وهو رفع الحرج ما لا طاقة به عن الدِّين.
وبالرُّجوع إلى ما تيسَّر لي من كتب السُّنَّة لم أجد النَّقل عن عائشة ولا عن ابن عبَّاسٍ في ردِّ هذا الحديث، وإنَّما رُوي أنَّ قيس بن رافعٍ الأشجعي () قال: يا أبا هُريرة فكيف إذا جاء مهراسكم؟ فقال: أعوذ بالله من شرِّك يا قيس.
ثمَّ إنَّ الحرج مرفوعٌ، لأنَّ رواية البُخاريَّ وغيره فيها: " إذا اسْتَيقظ أحَدُكُم مِنْ نومه فَليَغْسِل يدَه قَبْل أن يُدْخِلَها في وَضُوئِهِ " ومعلومٌ أنَّ الوَضُوء هو الماء الموضوع للتَّوضُّأ به، وهو عادةً ما يكون في إناءٍ صغيٍر، فتكون الرِّوايات قد وضَّحت بعضها بعضاً، ولهذا قال العراقي (): " وهو يدلُّ على أنَّ النَّهي مخصوصٌ بالأواني دون البِرك والحِياض الّتي لا يُخاف فساد مائها بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها ".
ومن الأمثلة أيضاً ما حكاه الشَّاطبيُّ () فقال: " وأنكر مالكٌ حديث إكفاء القُدور الّتي طُبخت من الإبل والغنم قبل القَسْم لمن احتاج إليه () ".
¥