ولم أجد فيما بين يديَّ من كتبٍ - النَّص من مالكٍ - رحمه الله - على ردِّ هذا الحديث، وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ العلماء التمسوا الأوجه لهذا الحديث، فرأوا أنَّ إكفاء القدور لا يعني إطراح الّلحم منها، وحاولوا تعليل الأمر إلاّ إنَّني وبناءً على أصل أنَّ الحديث حجَّةٌ بذاته، لا أستطيع ردَّه بفهمٍ مَوهومٍ لقاعدةٍ قطعيَّةٍ، فالشَّارع أعلم بالمصلحة، وهو أحرص على رفع الحرج، وما رآه الإمام مالكٌ حرجاً قد لا يراه غيره كذلك، ولهذا فعلينا أن نُفرِّق بين القاعده القطعيَّة، وفهمها الظَّنِّيِّ، وهو الذي أراه سبباً في كثيٍر من الاختلافات الّتي نحن في غنىً عنها.
ثانياً: تعارض الحديث مع قاعدة " عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة ".
تعرَّض الأُصوليون لمسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة، فقال الغَزاَليُّ (): " لا خلاف أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، إلاّ على مذهب من يجوِّز تكليف المحُال، أمَّا تأخيره إلى وقت الحاجه فجائزٌ عند أهل الحقِّ خلافاً للمُعتزلة ".
إذاً فقد فرَّق الأُصوليون بين مسألتي تأخير البيان عن وقت الخِطاب، أي إلى وقت الحاجة، ومسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة. فجوَّز الأولى الجمهور وخالف في ذلك الظَّاهريَّة () والمعتزلة وبعض الإماميَّة وبعض الخوارج ()، أمَّا تأخيره عن وقت الحاجة فلم أجد قائلاً به من أرباب المذاهب أو مُنتسبيها، إلاّ أنَّهم نسبوه لمن أجاز التَّكليف بما لا يُطاق.
وبناءً على ذلك فهذه المسألة ليست من الخلافيات، ولهذا فيجب أن تأتلف مع النُّصوص ولا تختلف معها، إلاّ أنَّني قد وجدت أحاديث توهم من أوَّل وهلةٍ أنَّها متعارضة مع هذه المسألة، مثال ذلك ما رواه الشيخان () عن أبي هُريرة -رضي الله عنه -أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلّى ثمَّ جاء فسلّم على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - فردَّ النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - عليه السَّلام، فقال: " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ". فصلَّى ثمَّ جاء فسلَّم على النَّبِّي - صلّى الله عليه وسلَّم - فقال: " ارْجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ثلاثاً. فقال: والّذي بعثك بالحقِّ فما أُحسن غيره فعلِّمني، قال: " إذَا قُمْتَ إلى الصَّلاة فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأ مَا تَيَسِّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعَاً ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً،ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدَا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسَاً، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدَاً، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا ".
فهذا حديثٌ صحيحٌ يعدُّ أصلاً - بكامل طرقه - في هيئة الصَّلاه وصفتها. إلاّ أنَّ فيه ما يُوهم الَّذي قدَّمته عن القاعدة، وهو ما فهمه غير واحدٍ من العلماء وأجابوا عنه.
قال ابن الجَوْزِي (): " فإن قيل: كيف جاز لرسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يُؤخِّر البيان وقت الحاجة فَيُردِّد الرَّجل إلى صلاةٍ ليست صحيحةٍ؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: إمَّا أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عنده، ورأى أنَّ الوقت لم يفته فأراد إيقاظ الفطنة للمتروك.
والثَّاني: أن يكون الرَّجل قد أدَّى قدر الواجب فأراد منه فعل المسنون والمستحب، فيكون قوله: " لم تُصلِّ " يعني الصَّلاة الكاملة ".
قلت: كان من الممكن أن نطلق على هذا المثال تأخير البيان عن وقت الحاجة لو انفضَّ المجلس دون أن يُبيِّن الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - للرَّجل الصَّواب ويعلِّمه، ولهذا قال ابن حجر: وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة.
ثالثاً: تعارض الحديث مع ما يُوهم انقطاع التَّكليف بالرُّغم من بقاء شروطه.
¥