تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

من المتَّفق عليه بين المسلمين جميعاً أنَّ المسلم يبقى مكلَّفاً إذا كان عاقلاً بالغاً، ولا يزول عنه التَّكليف إلاّ بزوال أحد هذه الأمور، أو الموت الّذي يُعدُّ هادما لأساس التَّكليف، وما سوى ذلك فالمرء مطالبٌ بأداء التَّكاليف المنوطة به. لا فرق بذلك بين نبيٍّ وغيره، يقول الله - سبحانه - مخاطبا نبيَّه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِيُن} () واليقين: الموت، كما فسَّره غير واحدٍ، والخطاب هاهنا وإن كان للنَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - إلاّ إنَّه خطاب لأُمَّته أيضاً كما تقرَّر في علم الأُصول ()، إلاّ ما خرج بخصوصِيَّةٍ يختصُّ بها النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم -، وهذا لا يثبت إلاّ بدليلٍ كما أشرت إلى ذلك في موضعه.

فإذا كان النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - وهو المغفور له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر مطالباً بالعبادة حتَّى يأتيه الأجل، فماذا نقول عن سائر الأُمَّة إلاّ إنَّه يلزمهم ما لزم النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - من القيام لله، والاستمرار على العبادة، وهذا لا يختلف عليه عاقلان، ولهذا فلا يُتصوَّر عقلاً ولا شرعاً أن يُعفى أحدٌ ما ويخصُّ بترك التَّكاليف،إلاّ إنَّ بعض الأحاديث قد أوهمت هذا فاحتاجت إلى بيانٍ، ومثال ذلك ما رواه البُخاريُّ () ومُسلمٌ () عن علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم - والزُّبير وطَلحة والمِقداد بن الأسود فقال: " انْطَلِقُوا حتَّى تَأتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإنَّ بِهَا ظَعِيْنَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا " وسَرَدَ الحديث في سياقٍ طويلٍ في نهايته فقال عمر:" يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: " إنَّهُ شَهِدَ بَدْرَاً، وَمَا يُدْرِيْكَ لَعَلَّ الله أنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ".

فالحديث كما هو واضحٌ تضمَّن ما يوهم بسقوط التَّكليف، وهو غير مراد.

قال ابن القيِّم (): أشكل على كثير من النَّاس معناه، فإنَّ ظاهره إباحة كلِّ الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاؤوا منها، وذلك ممتنعٌ، فقالت طائفةٌ منهم ابن الجَوزِي: ليس المراد من قوله "اعملوا" الاستقبال وإنَّما هو للماضي ()، وتقديره: أيُّ عمل كان لكم فقد غفرته، قال: ويدلُّ على ذلك شيئان:

أحدهما: إنَّه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر لكم.

والثَّاني: إنَّه كان يكون إطلاقاً في الذُّنوب.

ولا وجه لذلك، وحقيقة هذا الجواب، أي قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم، لكنَّه ضعيفٌ من وجهين:

أحدهما: إنَّ لفظ " اعملوا " يأباه، فإنَّه للاستقبال دون الماضي، وقوله: " قد غفرت لكم " لا يوجب أن يكون اعملوا مثله، فإنَّ قوله قد غفرت تحقيقٌ لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله: {أتَى أمْرُ اللهِ} و {جَاءَ رَبُّكَ} ونظائره.

الثَّاني: إنَّ نفس الحديث يردُّه فإنَّ سببه قصة حاطب وتجسُّسه على النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وذلك ذنبٌ واقعٌ بعد غزوة بدرٍ، لا قبلها، وهو سبب الحديث، فهو مراد منه قطعاً.

فالّذي نظنُّ في ذلك - والله أعلم - أنَّ هذا خطابٌ لقومٍ قد علم الله - سبحانه -أنَّهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنَّهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذُّنوب ولكن لا يتركهم - سبحانه - مُصرِّين عليها، بل يُوفِّقهم لتوبةٍ نَصُوحٍ، واستغفارٍ وحسناتٍ تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بها دون غيرهم لأنَّه قد تحقَّق ذلك فيهم، وأنَّهم مغفورٌ لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفره حصلت بأسبابٍ تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يُعطِّلُوا الفرائض وُثُوقاً بالمغفرة، ولو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاةٍ، ولا صيامٍ، ولا حجٍّ ولا زكاةٍ، ولا جهادٍ، وهذا مُحالٌ ".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير