ونظائر هذا في الكتاب والسُّنَّة موفورةٌ، تشهد بأنَّ المراد عدم رفع التَّكليف عنهم، وإلاّ لفهمنا من قول الله عزّوجلَّ: {لِيَغْفِرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ} () ارتفاع التَّكليف عنه - صلّى الله عليه وسلّم - وهذا ما لم يقل به أحدٌ، بل إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان أشدَّ اجتهاداً في عبادته بعد نزول هذه الآية عليه.
ثمَّ إنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم -قد أخبر عن بعض الصَّحابة، بما يُوهم ذلك، ولم يظهر منهم اتِّكالاً على ما قاله، أو تركاً للعمل، فقد بشَّر عدداً من الصَّحابة بالجنَّة، وهؤلاء المُبشَّرون كانوا أشدَّ النَّاس اجتهاداً وتشميراً في شأن الآخرة مما يُسقط الاستشهاد بفهم من فهم من هذا الحديث انقطاع التَّكليف عن البعض.
وما قيل في هذا الحديث يقال عن الحديث الذي رواه سهل بن الحَنْظليَّة أنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم - قال لأنس بن أبي مرثدٍ الغَنَوي:" قَدْ أوْجَبْتَ فَلا عَلَيْكَ ألاّ تَعْمَلَ بَعْدَهَا " ().
الفصل الثالث
تعارض الحديث مع العقل والواقع ونواميس الكون
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الاول: تعارض الحديث مع العقل ومُسلَّمات العلوم.
المبحث الثاني: تعارض الحديث مع الوقائع ونواميس الكون.
المبحث الثالث: تعارض الحديث مع الواقع والحِسِّ والمشاهده.
المبحث الاول
تعارض الحديث مع العقل ومُسلَّمات العلوم
قد يقف البعض على عددٍ من النُّصوص يُفهم منها تعارضاً وتناقضاً ما بينها وبين العقل أو البدهيات والمُسلَّمات في العقول، فيدَّعى التَّناقض على الشَّريعه لطرحها واستبعادها كما يفعل بعض الجهله عندما لا يستوعبون الاختلافات بين المذاهب الفقهيَّه او العقيديَّه فيُلحدون بحُجَّة التَّناقض والتَّعارض فيما بينهما.
ولسوف أتعرَّض في المطالب المقبلة لهذا النَّوع، وهو تعارض الحديث مع العقل بعد بحث ماهيَّة العقل الذي يجب أن يُؤخذ بتعارضِهِ، وسأُعرِّج على تعارض الحديث مع الرَّأي والقياس أيضاً لانهما ثمرة من ثمرات العقل، ثمَّ سأتعرَّض لتعارض الحديث مع مُسلَّمات العلوم، وقلت مُسلَّمات لأنَّ هناك فَرَضِيَّات في العلوم، وهذه الفَرَضيَّات لا ترتقي إلى منزلة التَّعارض مع الحديث أو الآيات لأنَّها أقلُّ منزلةٍ وأحطُّ بدرجاتٍ إلا إذا ثبت صدقها يقيناً لا ظنَّاً. وهذه المطالب المقبلة توضِّح المطلوب من هذا المبحث.
المطلب الاول:توهُّم تعارض الحديث مع العقل.
بدايةً لابدَّ من الاعتراف أنَّ تعارض الحديث مع العقل لا ضابط له، والسَّبب في ذلك هو اختلاف العقول وتباينها من شخص لأخر، ولهذا فإنَّ سؤالاً كبيراً يُطرح هاهنا وهو: ماهي مواصفات العقل الذي سيُعتمد عليه للحكم بمعارضته أو مناقضته للنُّصوص؟ سيما وأنَّ ما قد يستشكله شخصٌ، لا يكون كذلك عند آخر، وما يستغربه عقلٌ يكون عادِيَّاً ومقبولاً عند عقلٍ آخر ...... وهكذا. وبخاصَّةٍ إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ العقل منه ما هو غريزيٌّ (1)، ومنه ما هو مكتسبٌ بالتَّجارب والمعارف، وهناك عقولٌ جمعت بين كونها غريزيَّة ومكتسبة، ولا يخفى ما بين هذه العقول من تفاوتٍ واختلافٍ في طريقة الفهم، وتناول المسائل، وتقديم الحلول.
ثمَّ " إنَّ العقل يبطل الاعتماد على العقل" كما قال الدكتور يوسف القرضاوي (1)، وإذا أردنا أن نُحكِّم العقل ونجعله الضَّابط والمقياس، فعقل من نُحكِّم؟
" هل نُحكِّم عقل الحُفَّاظ، أم عقل الفُقَهاء؟
هل نُحكِّم العقل السَّلفيَّ، أم العقل الصُّوفيَّ؟
وهل نُحكِّم العقل الأُصوليَّ، أم العقل الفلسفيَّ؟ ولقد رأينا الفلاسفه وهم طائفه واحده يختلفون فيما بينهم إلى حدِّ التَّناقض والتَّضارب، فهذا يُثْبِتُ، وهذا يَنْفِي، وهذا يَبني، وهذا يَهدِم، فمن معه الحقُّ من الفلاسفة؟ عقل المِثاليِّين، أم االواقعيِّين، أم الماديِّين (2)؟ ".
فالعقل مُتعدِّدٌ متغيِّرٌ والدِّين والنُّصوص واحدةٌ ثابتةٌ، فالمنطق يقضي باعتماد الثَّابت في مواجهة المتعدِّد المتغيِّر.
¥