والخلاصة: أنَّه يَعْسُرُ علينا أن نحكم بتعارض العقل مع الحديث، بل إنَّ التَّسليم لهذا الأمر غير سائغٍ، لأنَّ الَّذي يحكم العقل قناعات صاحبه وتكوينه، ولهذا فإنْ ورد علينا أنَّ العقل قد تعارض مع حديث، فإنَّ اقصى ما يمكن ادِّعاؤه هو أنَّ العقل فيما بدا لفلان قد تعارض مع الحديث.
أمَّا أن يتعارض العقل السَّليم المهتدي بهُدى النَّقل، مع النَّقل الصَّحيح فهذا لا يحدث ولا يكون لأنَّ العقل الصَّريح لا يُناقض النَّقل الصَّحيح كما قرَّر ذلك ابن تَيْميَّه-رحمه الله- (3).
وإذا افترضنا أنَّ العقل تعارض ظاهريَّاً مع النَّقل أو الحديث فإن المنطق يقضي بعدم تقديم أحدهما على الآخر قبل الدِّراسه والبحث.
ولكنَّ بعض المَفْتونين بما يسمُّونه " المعقول" قد انحرفوا عن هذا السَّبيل، فقدَّموا حُكم العقل كالمُعْتزِلة القدماء، وبعض من سار على منهجهم من المُحدَثين الّذين بُهِرُوا بمنهج المُعْتزِلةِ فاستعاروا الفكرة منهم، في حين إنَّهم لم يتعمَّقُوا في النَّقل، بل ولم يُحْكِمُوا حُجَّة العقل أيضاً فأطلقوا كلماتٍ غيرَ مدروسةٍ مُجاراةً منهم لأسلافهم.
يقول محمد عَبْده: (1) " الأصل الأوّل للإسلام النَّظر العقليِّ لتحصيل الإيمان: فأول أساسٍ وُضع عليه الإسلام هو النَّظر العقليِّ ........ " وقال (2): " والأصل الثَّاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشَّرع عند التَّعارض ...... اتفق أهل المِلَّه الإسلاميَّه إلا قليلاً ممَّن لا يُنظر إليه على أنَّه إذا تعارض العقل والنَّقل أُخذ بما دل عليه العقل ".
ويقول تلميذه محمد رشيد رضا (3): " ذكرنا في المنار غير مرَّةٍ أنَّ الَّذي عليه المسلمون من أهل السُّنَّه وغيرهم من الفِرق المُعتَدِّ بإسلامها أنَّ الدَّليل العقليَّ القَطْعِيَّ، إذا جاء ظاهر الشَّرع ما يخالفه فالعمل بالدَّليل العقلي مُتعَيِّنٌ، ولنا في النَّقل التَّأويل أو التَّفويض ".
وهناك نُقُولٌ كثيرةٌ عن تلاميذ الشَّيخ محمد عبده في هذا الإطار (4).
فروَّاد هذه المدرسه الّتي تُسمَّى بالعَقْليَّة (5)، يرون أنَّ العقل يتقدَّم على النَّقل وما قولهم بالتَّأويل أو التَّفويض إلاّ هُروبٌ ولإرضاء البعض حتَّى لايقال إنَّهم يَرُدُّون ما جاء في الكتاب والسُّنَّه، فالتَّأويل كما سيأتي هو صرف الَّلفظ عن الظَّاهر، أي التَّحكُّم بما جاء عن المولى- عزَّوجلَّ- ورفض ظاهره بحججٍ واهيةٍ، أمَّا التَّفويض فكذلك إذ إنَّنا إذا أردنا أن نفهم التَّفويض كما فهمه السَّلف، فيجب أن نؤمن بما جاء به النَّقل، وإن أشكل ظاهره نفوِّض معناه وكيفيته إلى الله، فبعد تقديم حجَّة العقل كما يقول هؤلاء فأيُّ مكانٍ للتَّفويض يبقي؟
ولهذا فيمكن القول إنَّ مُراد هؤلاء جميعاً تقديم العقل بإطلاقٍ وجعله أساساً كما يقول حسن حنفي: (6) " إنَّ العقل هو أساس النَّقل، وإنَّه كل ما عارض العقل فإنَّه يعارض النَّقل، وكلُّ ما وافق العقل فإنَّه يوافق النَّقل، ظهر ذلك عند المعتزلة وعند الفلاسفة، ....... ، وظهر الواقع في علم الأُصول، ورأينا المصالح المرسلة والاجتهاد، وأنَّ ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسنٌ، وأنَّ الواقع له الأولوية على كلِّ نصٍّ ".
ثمَّ إنَّنا إذا أردنا أن نَحْكُم بتعارض العقل مع الحديث، فإنَّنا نطلب عقلاً خالياً من المُؤثِّرات، سليماً من الآفات، غير متشيعٍ لشيءٍ من الآراء والاعتقادات، وأنّى نجد هذا العقل؟
ولهذا فإنَّي أضع هذه الضَّوابط التي أراها ضروريَّةً حتَّى نقبل دعوى تعارض العقل والنَّقل - ومنه الحديث -.
أوّلاً: لا يُقبل الحكم بتعارض العقل مع الحديث مِمَّن تأثَّر بمواقف مُسبقةٍ، أو انتمى إلى مذاهب فكريَّةٍ مُعيَّنةٍ، وبِخاصَّةٍ إذا تعلَّق ذلك بما يحمله من أفكارٍ.
ثانياً: عالم الغيب يختلف عن عالم الشَّهاده، لذلك لا نستطيع أن نحكم بتعارض العقل مع نصٍّ يتعلَّق بالغيب، بحجَّة أنَّ عقولنا لم تستوعبه، فالعقل مجاله في عالم الشَّهاده، أمَّا في عالم الغيب فموقفه التَّسليم والخُضوع.
¥