ثالثاً: إن ثبت تعارض العقل مع الحديث ظاهريَّاً، وكان هذا الحديث على درجةٍ عاليةٍ من الصِّحة، فإنَّنا لا نستطيع تقديم العقل عليه، لأنّ ذلك يعني إهمال النَّص. وإهمال نصٍّ صحيحٍ ينطوي على درجةٍ من الخطورة.
وبناء على ذلك نستطيع فهم أكثر ما ادُّعي عليه التَّعارض من هذا الجانب، ونستطيع تبعاً لذلك دراسته وتقديم الأجوبة بشأنه.
ومن أمثلة ما ادُّعي فيه تعارض العقل مع الحديث ما رواه البُخاري (1) ومُسلمٌ (3) عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-:" يُؤْتَى بِالمَوتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَحٍ فَيُنَاِدي مُنَادٍ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَم، هَذَا المَوتُ - وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ -. ثُمَّ يُنَادِي يَا أهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ: فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَم هَذَا المَوْتُ، - وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآه - فيُذبح ثمَّ يقول: يَا أهْلَ الجَنَّة خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ، وَيَا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ ثُمَّ قَرَأ: {وَأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَهٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (1).
ففي هذا الحديث ما يدعو للتَّوقُّف والتَّأمُّل، حيث جاء فيه أنَّ الموت سيُذبح والمعروف أنَّ الموت عَرَضٌ من الأعراض، ولا يمكن رؤيته، أو حصره في مكانٍ، وهذا ما كان من العلماء حيث استشكلوا هذا الحديث، قال ابن العربي (2): إنَّه جاء بما يُناقض العقل، فإنَّ الموت عَرَضٌ، والعَرَض لا ينقلب جِسماً ولا نعقل فيه ذبحاً.
ولهذا فقد كان للعلماء المتكلِّمين في هذا الحديث ودفعه بحجة أنَّه خبر آحادٍ وجاء بما يُناقض العقل كما حكى ابن العربي (3).
المسلك الثَّاني: مسلك أهل التَّأويل، حيث حملوه على التَّمثيل والتَّخييل، لا الحقيقة، وهؤلاء، قد اختلفوا في تأويله على أقوالٍ.
المسلك الثَّالث: حملُ الذَّبح على الحقيقة.
أمَّا المسلك الأوّل فلا التفات له، لأنَّه ديْدن المعتزلة ومن وافقهم في كلِّ حديثٍ لا يجري على أُصولهم، فهي دعوى بلا بَيِّنه إذاً.
أمَّا التَّأويل فلا يُلجأ له إلاّ إذا لم نجد لظاهر الحديث محملاً، ولكن والحال أنَّه يمكن حمل الحديث على ظاهره فالأولى عدم الُّلجوء للتَّأويل، إذ هو نوعٌ من الانتصار لفكرةٍ على حساب أُخرى كما سيأتي في الباب القادم.
أمَّا حمله على الحقيقة فهو الأولى والأجدر، وإليه ذهب القُرطبيُّ (4) فقال: " إنَّ الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصاً حسنةً وقبيحةً، لا أنَّ العَرَض نفسه ينقلبُ جوهراً إذ ليس من قبيل الجواهر، قال: ومحالٌ أن ينقلب الموت كبشاً لأنَّ الموت عَرَض، وإنَّما المعنى أنَّ الله - سبحانه - يخلق شخصاً يُسميه الموت فيُذبح بين الجنَّه والنَّار.
وبعض الاستنتاجات عند القُرطبيِّ يُعكِّر عليها ما جاء في رواية أبي سعيدٍ الخُدْريِّ من أنَّهم يعرفون الموت، ولو أنَّه خُلق لساعته فمن أين سيكونون قد عرفوه؟؟.
وذهب ابن القَيِّم (1): إلى أن الله - سبحانه - يُنشيء من الموت صورة كبشٍ كما يُنشيء من الأعمال صوراً معيَّنةٍ يُثاب بها ويُعاقب، والله تعالى ينشيء من الأعراض أجساماً تكون الأعراض مادةً لها، ويُنشيء من الأجسام أعراضاً، كما يُنشيءُ من الأعراض أعراضاً، ومن الأجسام أجساماً، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرَّب تعالى.
وقد استشهد ابن قيِّم الجَوْزيَّة (2) بما يُقوِّي ما ذهب إليه، ويوضِّح مراده بالأحاديث الّتي تُشابه هذا الحديث ومنها قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: " تَجِيءُ البَقَرَهُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ القِيَامَة كأنَّهُمَاغَمَامَتَان" (3) وغير ذلك من الأحاديث الّتي تدلُّ على جواز انقلاب الأعراض إلى أجسامٍ.
¥