وخلاصة القول: أنَّ المسألة إذا كانت تتعلَّق بقدرة الله كما هو الحال هنا فلا داعي لإنكارها، أو استشكالها، ثمَّ إنَّ هذه المسألة تتعلَّق بعالم الغيب، وقد قررت ابتداءً أنَّ عالم الغيب غير الشَّهاده،وهذا عين ما ذهب إليه العلاّمه أحمد شاكر في تعليقه علىمسند أحمد، حيث قال (4): " وعالم الغيب الّذي وراء المادَّة لا تدركه العقول المُقيَّدة بالأجسام في هذه الأرض، بل إن العقول عجزت عن إدراك حقائق المادَّة الّتي في متناول إدراكها، فما بالها تسمو إلى الحكم على ما خرج من نطاق قدرتها ومن سلطانها؟؟.
وها نحن أُولاء في عصرنا ندرك تحويل المادَّة إلى قوَّةٍ، وقد ندرك تحويل القوَّة إلى مادَّةٍ بالصِّناعة والعمل، من غير معرفةٍ بحقيقة هذه ولا تلك، وما ندري ماذا يكون من بعد، إلا أنَّ العقل الإنسانيَّ عاجزٌ وقاصِرٌ، وما المادَّة، والقوَّة، والعَرَض، والجوهر، إلاّ اصطلاحاتٍ لتقريب الحقائق، فخيرٌ للإنسان أن يؤمن وأن يعمل صالحاً، ثمَّ يدَع ما في الغيب لعالِم الغيب".
لذا يمكن حمل الذَّبح على حقيقته طالما أنَّ هناك محملاً له، ولهذا فقد ألّف السُّيوطيُّ رسالةً في الموضوع سمّاها " رفع الصَّوت بذبح الموت " (1) استلَّها من شرح ابن حجرٍ وزاد عليها زوائد، منها استشكال معرفة أهل الجنَّه والنَّار بالكبش،فقال (2) عن بعض المُفسِّرين عند قوله تعالى: {الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ} (3): إنَّ الله- تعالى- خلق الموت في صورة كبشٍ لا يمُرّ على أحدٍ إلاّ مات، وخلق الحياة في صورة فرسٍ لاتمرّ على شيء إلاّ حَيِيَ. قال: وهذا يدلُّ على أن الميِّت يشاهد حُلول الموت في صورة كبشٍ
قال السُّيوطيُّ (4): روى ابن أبي حاتمٍ عن قتادة في قوله تعالى: {الّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاة} قال: الحياة: فرس جبريل - عليه السَّلام - والموت كبشٌ أملحٌ.
وعندأبي الشَّيخ (5) أثرٌضعيفٌ عن وهب بن مُنَبِّه من قوله في وصف ملك الموت وأنَّه (6): خُلق على هيئة كبشٍ ثمَّ استفاض في وصفه.
ومما يُلحق بتعارض الحديث مع العقل، تعارضه مع الرَّأي والقياس، إذ هما ناتجٌ من نواتج العقل، وثمرةٌ من ثمراته، وبالتَّالي فتعارض الحديث مع أحدهما هو تعارضٌ مع العقل بالضَّرُورة، وقد نهى السَّلف - رضوان الله عليهم - عن معارضة السُّنَّة بالرَّأي والعقل، وقد مرَّ بنا شيءٌ من هذا في الفصل الماضي فلن أتشاغل بإعادته. ولسوف أُكرِّس هذه الورقات لبيان آراء العلماء في اختلاف النَّص والقياس، مع الأمثلة على هذه الحاله.
اختلف العلماء في جواز تعارض الحديث مع القياس على عدة اقوالٍ:
الأوّل: مذهب أهل الحديث والشَّافعيُّ وأحمد إلى أنَّ الخبر يرجح على القياس، سواء أكان الرَّاوي عالماً فقيهاً أو لم يكن كذلك، لكن يُشترط أن يكون عدلاً ضابطاً.
وذكر الدكتور مصطفى الخَنُّ (1) أنَّ الأخذ بخبر الواحد في مواجهة القياس هو محلُّ إجماعٍ من الصَّحابه - رضوان الله عليهم -.
ومن عانى الحديث، وأدمن مطالعة كتب السُّنَّة المُشرَّفة علِم هذا بداهَةً، إذ أنَّه ما من عارضٍ عرض لأحد أخيار هذه الأمَّة إلاّ طلب الدَّليل من كتاب الله، فإن لم يجد التمس من السُّنَّة، ولم يُؤثَر عن أحدٍ منهم أنَّه جنح للقياس قبل طلب الدَّليل من الحديث.
الثَّاني: يقدَّم القياس على الحديث، وقد نُسب القول للإمام مالكٍ (2) - رحمه الله - وقد نزَّه صاحب القواطع الإمام مالكٍ عن ذلك فقال (3):" هذا القول باطلٌ سَمِجٌ مُستَقبحٌ عظيمٌ، وأنا أُجلُّ منزلة مالكٍ عن مثل هذا القول، ولا يُدري ثبوته منه ".
الثَّالث: رأيُ يفرِّق أصحابه بين الرَّاوي الفقيه، وغير الفقيه، فإن كان فقيهاً قدِّم خبره، وإن كان غير ذلك قُدِّم القياس عليه، وهو منسوبٌ لبعض الحنفيَّة واختاره البَزْدويُّ ومشى عليه حيث قال (4): " وأمَّا رواية من لم يُعرف بالفقه، ولكنَّه معروفٌ بالعدالة والضَّبط مثل أبي هُريرة، وأنس بن مالك - رضي الله عنهما - فإن وافق القياس عُمل به، وإن خالفه لم يترك إلا بالضَّرورة وانسداد باب الرَّأي ".
الرَّابع: الوقف،وعدم ترجيح أحدهما على الآخر،حتَّى يقوم الدَّليل على ترجيحه (5).
¥