وقريبٌ من هذا ما أخرجه مُسلمٌ في " صحيحه " (2) عن أنس بن مالك أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - متى تقوم السَّاعه؟ وعنده غلامٌ من الأنصار يُقال له محمدٌ، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - " إنْ يَعِشْ هَذَا الغُلامُ فَعَسَى أنْ لاَ يُدْرِكُهُ الهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ".
ولقائلٍ أن يقول إنَّ ذلك الغلام قد هَرِم ومات، وماتت بعده أجيالٌ ولم تقم السَّاعة، مما يوهم تعارضاً مع هذا الحديث والوقائع المستقبلة.
وللوقوف على حقيقة المراد بالحديث يجب استيعاب طرق الحديث حتى لا نقع في محذورٍ نبَّهنا عليه، إذ بجمع الطُّرق والرِّوايات قد يزول الإشكال والتَّعارض.
وقبل الشُّروع في بيان أقوال العلماء وتوجيه هذا الحديث بجمع طرقه، ومعرفة المراد منه، أُشير إلى أنَّ أنساً قال في بعض الرِّوايات كما في هذه: وعنده غلامٌ من الأنصار، ثمَّ في روايةٍ أُخرى (1) عن أنس، أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - ثمَّ نظر إلى غلامٍ بين يديه من أزد شَنُوءة.
وفي روايةٍ عن أبي يَعْلى (2) وأحمد (3) - والَّلفظ لأبي يَعْلى- فنظر رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - إلى غلامٍ من دَوْسٍ يُقال له: سعدٌ، فقال:" إنْ يَعِشْ هَذَا، لاَ يَهْرَمُ حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ".
فهذا الاختلاف في اسم الغلام أولاً، ثمَّ في اسم القبيلة، قد يجعله البعض من باب الاضطراب والاختلاف الذي قد يؤدِّي لطرح الثِّقه بالحديث وجعله مما يجب التَّوقُّف في الأخذ به إن لم يجب ردُّه، ولكنِّي سأدخل من هذا الباب - أي الاختلاف - لمناقشة الحديث،لأنَّه ليس كلّ اختلافٍ يقود الى هذه النتيجة، فالاختلاف قد يكون مؤثِّراً لو أنَّ السِّياق كان لحكايةٍ واحدةٍ، ولكنْ من يجْزِم لنا أنَّ الحادثة واحدةٌ؟ بل إنَّ السِّياق يؤكد على عكس هذا من خلال السُّؤالاتِ مختلفةٌ، والحوادِثَ متعدِّدةٌ، وفي كلِّ مرَّةٍ يُجيب الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - بحسب الواقع الّذي كان عنده، ويؤيِّد هذا رواية عائشه عند مُسلمٍ (4) أنَّها قالت: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - سألوه عن السَّاعه: متى السَّاعه؟ فنظر إلى أحدث إنسانٍ منهم فقال " ..... الحديث ".
فالسُّؤال إذاً متكرّرٌ، والجواب كذلك متكرِّرٌ، وهو صادرٌ عن الأعراب، أو إن أغلب الأسئلة تصدر عن الأعراب والوفود، قال ابن رجَبِ (1): " ولم يكن النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - يُرخِّص في المسائل إلا للأعراب ونحوهم من الوفود القادمين عليه يتألَّفهم بذلك. فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينه الّذين رسخ الإيمان في قلوبهم فنُهوا عن المسألة كما في " صحيح مسلم " (2) عن النَّوَّاس بن سَمْعان قال: أقمت مع رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - بالمدينه سنةً ما يمنعني من الهجره إلاّ المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم -.
وفيه أيضاً (3) عن أنس قال: نُهينا أن نسأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عن شيءٍ، فكان يعجبنا أن يجيء الرَّجل من أهل الباديه العاقل فيسأله ونحن نسمع ".
وفي طرق رواية الحديث ما يشير إلى أنَّ الأعراب هم الّذين كانوا يسألون رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عن السَّاعه كما في حديث عائشه المتقدِّم، وكما في رواية أحمد (4) عن أنس أنَّ أعرابياً سأل رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - عن قيام السَّاعه ......... الحديث.
وكما في رواية أبي يَعْلى (5) عن أنسٍ أيضاً قال: كان أجرأ النَّاس على مسألة رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - الأعراب، أتاه أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله متى السَّاعه؟ ...... "
من هذه الأدلَّة والشَّواهد يتبيَّن أنَّ الأعراب هم من كانوا يسأل، وأنَّ الرَّسول - صلّى الله عليه وسلّم - كان يجيبهم في كلِّ مرَّةٍ حسب ما كان أمامه، فبتكرُّر الأسئلة، يتكرَّر الأشخاص وبهذا يزول الإشكال الأوّل.
أمَّا الإشكال الثَّاني - وهو المقصود من هذا المثال- فهو أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قد حدَّد السَّاعة بعمر الغلام ولم يحصل هذا، فكيف نستطيع إزالة التَّعارض؟.
¥